الشعر الجيد مازال يمتلك رصيداً ينافس الرواية ويفوقها أحياناً، لكن المشكلة الأكبر في أن الرواية صارت تجد رواجاً أكثر، حتى الرديئة منها -مع خالص الأسف- والسبب هو أن سرعة إيقاع الكون تتناسب عكسياً مع مزاج القراءة، فالنهار الممتلئ بالحركة والتشظّي يدعو القارئ إلى أخذ قسط كاف من الهدوء، وهذا الهدوء تقدمه الرواية بوصفها سرداً متوالياً، وثمة أمر آخر هو أن الرواية منفتحة أحياناً نحو السينما والدراما، ونحن الآن نعيش في زمنيهما، في حين ظلّ الشعر يراوح في إطار جمهور نخبوي، ولعل السبب الأكبر يكمن في القصيدة نفسها والشاعر نفسه، ففي وسط كل هذا الزحام المعرفي، كثيراً ما دعا الشعراء إلى (القصيدة الذكية) التي تمتلك (Wi Fi) تستطيع عن طريقه أن تشبك نفسها بكل شبكة متاحة لها فالنص الشعري حين يكون مجرد نص شعري لا يكفي، إذ إن ثمة غناء ومسرحاً وسينما وتشكيلاً وموسيقا تتيح للنص أن ينفتح نحوها،
وهناك إلقاء وآلية تسويق وترويج لشكل الكتاب وكيفية قراءته، وهناك صوت وإحساس وشكل، والشعر يحفل بكل هذا الأشياء ليكون مستمراً وعامراً بالمحبة، أما الرواية فعلى مستوى الوطن العربي مازالت تشهد تطوراً في مجال حضورها وتسويقها الأدبي.
وهكذا نجد أن الشعر وسيلة حياة، فهو الوحيد الذي استطاع أن يظل صامداً أمام موجات عاتية من التجريف الفكري الذي نعيشه في عصرنا هذا، فكثير من الشعراء أخذ يبحث عن قصيدة ليلاه بعيداً عن التطور المنطقي للقصيدة الذكية التي تعبت في ضمير بعض الشعراء بعد أن تطورت تجربتهم الشعرية، وبعد ضياع الكثير من العمر وتفاقم مساحات الانشغال عن الذات الآخر، يكتفي الشاعر هنا بأن يظل شاعراً ليس إلا، وهذا منجز كبير في زمن الخسارات، لكن عذوبة الشعر تبقى مذاقاً لكل عشاق الشعر رغم تقدم الرواية في مجالات كثيرة ودخولها عوالم متعددة.