كل واحد منا، مهما بلغ شأنه يعدّ نفسه صاحب رأي، ويرى نفسه جديراً بكل مكان، مهما كان المكان سامياً، ومهما كانت المؤهلات التي يتطلبها المكان، وهي خارج قدراتنا العقلية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية! وهذا الإحساس الإنساني الطبيعي بالجدارة هو الذي أوجد بنى إدارية تقويمية في كل مكان، من قياس للقدرات والطاقات والأداء، وهذه النظم استطاعت أن ترسي قواعد مهمة في المجتمعات، وعلى كل صعيد، ففي مجال التربية والتعليم هناك ما يطلق عليه التراتبية، وفي مصر العزيزة لا يزال هذا التقليد موجوداً، فهناك مدرس ومدرس أول وغير ذلك، ويفاخر صاحب المرتبة بمرتبته، وهي التي تؤهله للارتقاء وظيفياً، فلا تجد مديراً وأساتذته يعملون تحت رئاسته، فلا بد من المرور بالسنوات والتقويم، وفي كل مكان كان هذا العرف موجوداً، فالأمير يحيى الشهابي، والدكتور صباح قباني، وشخصيات وعلامات لها جهدها الكبير هي التي تعمل وتخطط، والجميع بلا استثناء لا ينكر مهارتها ومكانتها.. وحين انقلبت المعايير صرنا نشهد ظواهر غريبة، وزاد التنافس بين الأجيال، والجيل الشاب يحاول بكل السبل إقصاء القدامى والخبرات القديرة دون أن يضع في حسبانه أن يستفيد منها ومن خبراتها في الاستشارات، والقدامى لبسهم وهم الصلاحية الدائمة والمؤبدة، ولم يقبلوا أن يكونوا الخبراء الذين تتم استشارتهم، بل أرادوا الحفاظ على كل شيء، بما في ذلك المواقع والكراسي والمكتسبات، ولم يؤمنوا باحتضان الجيل الجديد وتدريبه وتطويره.. الصراع هذا الموسم من علماء التربية والاجتماع هو صراع وهمي لا قيمة له، وهو في الوقت نفسه يؤثر تأثيراً كارثياً في حياة البلدان، فهو من ناحية محددة يمثل تعاقب الأجيال الطبيعي، ولكنه في الأحوال غير السليمة يتحول إلى ظاهرة قاتلة، وذلك عندما يفقد المجتمع أي طريقة من الطرق التي تحمي الخبراء القدامى، ولا يؤمن له الحياة الكريمة، فهو، أي الكبير في السن، سيعمل من أجل الحياة وليس من أجل العمل، وسينافس ويدفع بكل قوته للبقاء وكسب لقمة العيش، وربما للاكتناز، وهذا الصراع، وما أدراك ما هذا الصراع، العائلات لا تقف عند المؤسسين، فهؤلاء أسسوا وقدموا لأبنائهم وأعدوا ما يلزم، ثم ينسحبون إلى ظل الخبرة ليقدم كل واحد منهم خبرته ويراقب من جاء بعده وآليات تنفيذه للعمل والخطط، وهذا ما كان من شركات النسيج السورية القديمة والمنسوجات والنحاس والأغذية والأعمال اليدوية والدامسكو، لذلك لم تمت هذه المهن والصناعات لأن الكبار أعطوها لأولادهم ومحبيهم، ولو تمتعوا بأنانية مفرطة لاندثرت المهن وما رأينا الدامسكو والبروكار وسواه، لأن تقاليد التعليم والانتقال من جيل إلى جيل حافظت على هذه المهن الرائعة وبقيت خالدة.
كثيرون ينتقدون أصحاب هذه المهن بأنهم ينقلونها إلى أولادهم وحسب، وربما إلى الأقارب والأحباب، وهذه مؤسسات خاصة، تتمتع بالملكية والحرية، ولكنها في كل حال تنتقل ولو لم يكن للمهني المعلم من نسل، لأنه يكسب المهارة لمن أحبه، هذا على صعيد المهن الخاصة والحرف الدقيقة، والتي تحافظ على تتابع الفن والحرفة والدخل الذي صار وطنياً أو قومياً، فما بالنا على صعيد الدول والمؤسسات التي ليست ملكية خاصة لأحد، ونحن قادمون إليها كضيوف نقدم ما لدينا، ونأخذ منها الحياة اللائقة والسعيدة والأجر، ومن ثم نغادر..؟!
منذ عقود متطاولة، ونحن نسمع بأسماء، وهذه الأسماء لا تتغير ولا تتبدل، ولا تزيح مؤخرتها لتفسح المجال للمشاركة في الأمور، ومن ثم تتم عملية الانزياح تدريجياً ليأتي خبراء جدد! على كل صعيد لا يوجد لدينا من يعمل بروح الفريق والجيل، ولا يوجد من يقوم بالعمل والتدريب التام لمن هم حوله من مساعدين وعمال، لذلك تصل إلى قناعة بأن هذا الشخص هو الدعامة وهو الفهم، ولا أحد سواه، والويل لمن سيأتي بعده، فإنه لن يتمكن من القيام بالعمل! عجيب هذا الرأي، مع أن كثيرين ممن نسمع أسماءهم تمت عملية إسناد المهام لهم، ولم ينجحوا في أي ميدان، ودفعوا المكان الذي شغلوه إلى العقم والنظرية الأحادية، وفي أحسن الأحوال قاموا بتحويل هذه المواقع إلى مواقع غير فاعلة وغير مجدية، بل إن عدداً منهم، ومن كثرة إساءاتهم، يبعد الطاقات الجديدة وبعدوانية كبيرة، ويتحول هو من الخبرة المتراكمة إلى الصراع شديد اللهجة، وبحسبة بسيطة نجد أن الأوطان تخسر الخبرات الجيدة المتراكمة، وفي الوقت نفسه أحرقت الخبرات الحديثة والطاقات التي تبحث عن مكانها، وعندما يتحول الأمر إلى صراع بقاء، فإن كليهما، وليس أي طرف بمفرده سيكون ملهياً بالصراع، ولا يقدم ما هو مطلوب منه، إضافة إلى ما يزرعه هذا الصراع من ضغائن وأحقاد وفردية تتحول إلى أحقاد جماعية، وتحمل صيغاً مقيتة، دينية ومذهبية وطائفية وجغرافية، وعشائرية وأسرية، وكل ذلك على حساب الوطن الذي ينتظر كل طاقاته التي أنبتها في أرضه ويحتاجها في كل لحظة من اللحظات لتعزيز وجوده وتقدمه.
الحياة تبتلع الجميع، والكل سيرحل، والأرض ستطوي كل هذه الصراعات الوهمية لأبناء الأرض خارج مفهوم بنوة الأرض، ستسخر منهم وتطويهم بجنازات عظيمة وأبهة كبيرة، وربما بجنازات متواضعة، وربما إمعاناً منها في تعليمنا تأخذهم وتتركهم فريسة وغذاء لشوارد الحيوانات بلا جنائز، ومع ذلك فإن ابن الأرض لا يعتبر ولا يأخذ درساً، وحين يصله خبر وفاة واحد بعمر أبنائه، يذرف دمعات ويصبح أكثر تمسكاً بالحياة، هذه الرؤية أدت إلى إلغاء مؤسسات ومبادرات ودول.