يومان على الأكثر من إعداد هذا المقال وتكون عملية طوفان الأقصى قد دخلت أسبوعها الرابع على التوالي، حاملةً معها كل ذيول الخيبة والعار على الكيان الإسرائيلي وحكومته الأشد يمينية والتي طُعمت بجنرالات الحرب مؤخراً ضمن ما عرف بـ«بحكومة الحرب» أو «حكومة الطوارئ»، ولاسيما بعد تبنيها لأهداف عدة في تصعيد عدوانها الممنهج على قطاع غزة المحاصر، والتي تمثلت أبرزها في القضاء على الفصائل المقاومة الناشطة ضمن هذه الرقعة الجغرافية الضيقة، وتدمير قدراتها القتالية ولاسيما الصاروخية منها، إضافة لموضوع استعادة الأسرى الصهاينة الموجودين لدى هذه الفصائل، إلى جانب الهدف الضمني والذي بات يطفو على سطح الواقع، متجلياً بالسعي الأميركي- الإسرائيلي المشترك لتهجير أهالي قطاع غزة نحو سيناء المصرية لتصفية القضية الفلسطينية.
بغض النظر عن النقاط السابقة ومدى قدرة هذا الكيان عن تحقيقها وترجمتها ميدانياً، وخاصة القضاء على حركات المقاومة وتهجير أهالي غزة عن تراب وطنهم، إلا أننا هنا سنتناول ملف الأسرى الذي أمسى من الملفات الحساسة والقابلة للتطور والاستمرار لمرحلة ما بعد العدوان على غزة، وهو مرتبط بالعديد من الظروف المؤثرة في سلوك الحكومات الإسرائيلية مهما كان شكلها وإيديولوجيتها.
حتى اللحظة استطاعت فصائل المقاومة إدارة ملف الأسرى بعقلانية وبشكل جيد منذ بدء عملية طوفان الأقصى، حيث سعت هذه الفصائل بداية لنشر الأسرى في جميع أرجاء قطاع غزة لردع الكيان الصهيوني وقواته المحتلة من استهداف غزة عسكرياً وهو ما أعلنه المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام «أبو عبيدة»، إلا أن حكومة نتنياهو المتطرفة وبعد انضمام جنرالات عسكريين لصفوفها أمثال «بيني غانتس» إلى جانب الدعم الأميركي المفرط، دفع هذه الحكومة لتبني بروتوكول «هانيبال» والمتمثل: «باستهداف القوات الآسرة والأسرى في حال عدم القدرة على تحرير الأسرى وفق المعتقد الصهيوني»، وهو ما أدى لبدء العدوان «الإسرائيلي» الهمجي على قطاع غزة.
ولكن خلال سير هذا العدوان، بادرت المقاومة بداية لإطلاق سراح أم برفقة ولديها، ثم تم الإعلان عن إطلاق سراح أسيرتين تحملان الجنسية الأميركية لدوافع إنسانية، وهي الخطوة التي حملت أكثر من بعد:
أولاً: إثبات مصداقية هذه الفصائل الفلسطينية في تعاطيها مع ملف الأسرى وخاصة بعد إعلان أبي «عبيدة»، عن اعتبار هؤلاء بمثابة ضيوف وسيتم إطلاق سراحهم عندما تتاح الفرصة المرتبطة بالتطورات الميدانية.
ثانياً- سعي الفصائل الفلسطينية إلى إظهار صورتها الحقيقية أمام الرأي العام، ولاسيما الرأي العام الأميركي، بعد اتهام هذه الفصائل بالعمل الإرهابي و«دعشنة» سلوكها واتهامها بارتكاب أبشع صور القتل، وفي هذا الإطار برز تصريح «ليوشفيد ليفشيتز» وهي إحدى الأسيرتين المحررتين، عن المعاملة الحسنة التي تلقتها من المقاومة فترة احتجازها، الأمر الذي أحدث ضجة داخل الكيان.
ثالثاً- قد يكون إطلاق سراح الأسيرتين الأميركتين، عاملاً مساهماً ومسهلاً لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، من خلال منح الطرف المفاوض سواء القطري أم المصري هذا العامل للضغط على الأميركي لتحقيق ذلك ولو بكميات ضئيلة.
رابعاً- إدارة ملف الأسرى من الناحية النفسية بما يزيد من الضغوط على نتنياهو وحكومته من قبل المستوطنين، الذين خرجوا في تظاهرات ضده، مطالبينه بإنقاذ أقاربهم بأي طريقة، ولاسيما أنه تم تحرير أسيرتين تحملان الجنسية الأميركية، وهو ما دفع بعض عوائل الأسرى للشعور بأن هناك تفضيلاً في معالجة أوضاع أبنائهم تبعاً للجنسيات التي يحملونها.
خامساً- وهي النقطة الأبرز أن ملف الأسرى المدنيين ليست الورقة الضاغطة التي تهم الفصائل الفلسطينية بل الأسرى العسكريين، الذين تحرص المقاومة على الحفاظ عليهم لمرحلة ما بعد الحرب ليكونوا ورقة ضغط فاعلة ضد الحكومة الإسرائيلية لتبييض السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيين.
هذه الأبعاد إلى جانب حالة الاضطراب التي شهدتها حكومة نتنياهو ولاسيما بعد تسرب معلومات لنتنياهو بأن وزير حربه «يوآف غالانت» سيجتمع مع عوائل هؤلاء الأسرى، سارع نتنياهو لقطع الطريق مع خصمه الحكومي للاجتماع بهم مساء يوم السبت الماضي، وكان لافتاً تصريح نتنياهو عن استمرار عمليات التفاوض لاستعادة الأسرى بالتوازي مع العمليات العسكرية ضد قطاع غزة، وهو ما يمكن إرجاعه لعدة احتمالات:
1- هذا التصريح جاء بعد اضطرار نتنياهو للقاء أهالي الأسرى الذين باتوا يمثلون ضغطاً داخلياً عليه لوقف الحرب واستعادة الأسرى، بأي وسيلة كانت بما في ذلك وسيلة وقف إطلاق النار والرضوخ لمطالب المقاومة، وهو ما سيحد من حياة نتنياهو السياسية.
2- تبرير استخدام القوة المفرطة ضد القطاع للضغط على الفصائل لتسليم الأسرى من دون شروط أو بالحد الأدنى من الشروط.
3- قد يكون الربط بين الجهود المبذولة لاستعادة الأسرى مع استمرار العمليات العسكرية، هو تمهيد الرأي العام الإسرائيلي لاحتمال مقتل هؤلاء الأسرى خلال العمليات العسكرية التي لا تبدو أنها ستتوقف في القريب العاجل.
4- مواجهة الحرب النفسية التي تخوضها الفصائل الفلسطينية، والتي برزت بداية الأمر خلال تحرير أسيرتين تحملان الجنسية الأميركية لدواع إنسانية، ومن ثم إعلان ممثل حماس في قطاع غزة «يحيى السنوار» استعداد الفصائل لتنفيذ صفقة الأسرى، وهذا الإعلان شكل رسالة قوية للداخل الإسرائيلي، بأن حكومة نتنياهو هي التي تناور لعدم استعادة الأسرى.
ولكن أهم ما أمكن ملاحظته في هذا المؤتمر الصحفي، تمثل بمحاولة نتنياهو إظهار أن حكومته لا تعاني من أي انقسامات وهو ما برز في تعمد ظهور الترويكا « نتنياهو- غالانت -وبني غانتس» بشكل متزامن.
ملف الأسرى لم ينته عند هذا الحد، بل برز مساء الإثنين إعلان المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال، والمتضمن تحرير أسيرة لدى الفصائل الفلسطينية، مدعياً أنها جندية تم أسرها خلال عملية «طوفان الأقصى» في السابع من الشهر الماضي، إلا أن هذا الادعاء بعملية التحرير هذه، هو ادعاء كاذب وكان هدفه فقط تحقيق أهداف داخلية، أبرزها أن حكومة الاحتلال مهتمة بهذا الملف، وخاصة بعد تصاعد وتيرة التظاهرات التي شهدتها الأراضي المحتلة ضد بنيامين نتنياهو واتهامه بعدم الاهتمام بهذا الملف، وسعيه لتحقيق مصالحه الشخصية، والمتمثلة ببقائه في السلطة والتهرب من المسؤولية والمحاسبة القضائية، وما يؤكد كذب هذا الادعاء يمكن ملاحظة النقاط التالية:
أولاً. هناك وسائل تصوير «كاميرات» على رأس وآليات قوات الاحتلال، ولو أن هذا الاحتلال هو فعلاً قام بمثل هذه العملية لكان نشر تفاصيلها على الإعلام، ولما كان المتحدث الرسمي طلب من الصحفيين عدم السؤال عن التفاصيل، بل كان قدم هذا الاحتلال قواته على أنها قوات تتمتع بالقدرات والكفاءات المناسبة، بما يسهم في تخفيف حجم الضغط الداخلي، إلا أن عدم عرض التفاصيل يؤكد زيف ادعاء هذا الاحتلال الساعي لتحقيق أهداف وهمية.
ثانياً. المجندة والتي تدعى «أوري مجيديش»، والتي يدعي كل من جهازي «الشابك» و«الأمان» بأنهما قاما بتحريرها خلال العملية البرية، لم يكن اسمها ضمن قوائم الأسماء التي نشرتها الفصائل الفلسطينية، وهذا ما أكدته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية.
ثالثاً. لو صحت رواية الاحتلال بأن أوري مجيديش كانت ضمن الأسرى، وتم اختطافها في السادس من تشرين وتحريرها- كما ادعى هذا الكيان- في الثلاثين من الشهر ذاته، كيف لها أن تقوم بنشر تغريدات لها وهي في الأسر، في ظل انقطاع الاتصالات والهواتف في قطاع غزة، قبل أن تتسرب معلومات مؤكدة أن هذه المجندة تخلفت عن خدمتها العسكرية بعد عملية «طوفان الأقصى».
رابعاً. هذا الإعلان هدفه التشويش على فيديو الأسيرات الثلاث الذي بثّته كتائب القسام وأحدث صدمة كبيرة في صفوف المستوطنين، في محاولة من حكومة نتنياهو للهروب من الضغط الذي يمثله ملف الأسرى.
ختاماً، ملف الأسرى وإن طرحت حلوله بشكل جزئي أوكلي، إلا أن الواضح مما يحصل، بأن نتنياهو في حال تمكنه من معالجة هذا الملف قبل انتهاء الحرب وفق مصالحه، سيعتبره إنجازاً يتفاخر به، ولكن كل الدلائل تؤكد أن نتنياهو يفضل موت جميع الأسرى عن خروجهم لكيلا يتحولوا إلى أصوات تتحدث باسم المقاومة داخل الكيان وأمام الرأي العام العالمي.