حين عوتب المتنبي في لغته عبّر لمنتقديه بأنه يقول الشعر، وعلى اللغويين أن يفصِّلوا اللغة على مقاسه، لكنه كان المتنبي ابن الصحراء والفصاحة واللغة السليمة، وكان ابن جني على ما هو عليه من مكانة ولغة وعلم ينهل من أبي الطيب، ويشرح شعره لما فيه من لغة وتفوق وما إلى ذلك من أمور جعلت المتنبي في المكانة الأسمى لغة وشعراً وفناً، وهو حين يطلب منهم أن يفصلوا اللغة على مقاس شعره، فإنما يطلب عن علم ومعرفة.. واليوم اختلف الأمر، فالسدنة لا يقيمون جملة سليمة، بل لا يقرؤون آية كريمة بسلامة لغوية، وكل عذرهم أنهم ليسوا متخصصين، مع أن المتنبي لم يدرس في قسم اللغة العربية في الكوفة أو بغداد أو حلب.. كان يعرف ما لديه ويعتدّ به، وكان ابن جني يسعد بمعرفته تلك، أما اليوم فالواحد لا يقيم جملة، وهو إن أقامها فقد أمضى أياماً في ضبطها، وربما كتبت له، وربما ضبطت له، وعند القراءة والبيان يغرق في شبر لغة..! إلى هنا هذا من حقه، وليس لأحد أن يطالب واحداً في الفصاحة والسلامة، لكن الذي يجعلك لا تتوقف عن التندر هو أن مثل هؤلاء يتنطعون، ويجلسون في مكان الريادة للتشريع في اللغة، ولدي كتب عديدة سطرها هؤلاء الأفاضل تكتظ بالأغلاط، وبالجهل بين الفاعل والمفعول، وهنا لا أتحدث عن مسائل اللغة الخلافية، ولا المسائل الكوفية والبصرية، ولا عن أي مسألة خلافية، بل عن مذكرة كتبها أحدهم ووقعها وهي مملوءة بالأغلاط من الهمزة إلى دواهي اللغة، واسم هذا الشخص يزين التوقيع الذي يحوي أغلاطاً أيضاً لو دققنا فيه!
حماة اللغة هم حماة الغلط والجهل.. لن ألجأ إلى وضع صور لهذه الكتب، ولن أضع مماحكات جرت بينهم حول قضية ما، وتبادلوا الاتهامات فيها، فهذا يقول: أعتب عليك في الكتاب خطأ!
وذاك يقول: طلبت تصحيحه ولم يصحح!! والطريف المؤلم أنهم يتناقشون في أمور تتعلق باللغة، وهم لا يميزون بين فعل وفاعل..
ربما كان عتب العاتب على الكاتب ليس من أجل اللغة، بل لأنه بفعلته تلك فضح الجهل اللغوي المتلطّي، وربما كان صاحبنا يريد أن يجعل هذا من مشرّعي اللغة ومن هنا جاء عتبه! تنافس ابن خالويه وابن جني حول المتنبي، ومن حسن حظه أنه رحل مبكراً، أي المتنبي، فلو أدرك وقت المؤسسات العلمية واللغوية البارعة اليوم، التي لا تتعامل بالأحقاد! فإنه لن يقبل منه أن يكون متبدّياً، بل سيسأل إن كان يرطن بالفرنسية والإنكليزية، وربما لغات شرقية أو بائدة، ولن يقبل كلامه عن الشعر، فهو في نظر علماء اليوم ابن سقَّاء، وليس من أكابر القوم، فلم يولّه سيف الدولة إمارة ووزارة لذلك لا ينتمي إلى الطبقة العليا، وابن سقَّاء ليس سليل مجد وعائلات!! بعض جهابذتنا يظنون أنفسهم أبناء العائلات ويحكمون على الآخرين خلاف ذلك!!
ليتهم يعودون إلى الأغاني لقراءة خبر جرير مع والده البخيل الوضيع، وأظنهم لم يقرؤوه، ليعلموا معنى أن تكون مبدعاً تغرف من بحر كجرير، في حين ضاع أغلب شعر الفرزدق ابن السادة في القبيلة، مع أنه برأي العلماء يحمل ثلثي اللغة..!
المهم أن الشيخ عتب على الكاتب نشر ما نشره لوجود خطأ، بل لوجود أخطاء، لأنه أفسد عليه أمراً ما، فأرسل لي الكاتب الموضوع كله، لكنني آثرت عدم الخوض في الموضوع لعدم الأهمية بالنسبة للقارئ، وبالنسبة لي أيضاً.. لكن ابن جني شرح ديوان المتنبي ورحل الأمراء الذين ولّاهم سيف الدولة.