ثلاثة انتماءات على مدار قرن من الزمن أثبتت إخفاقها بالثلاثة، ولكن الحياة دبّت فيها لدينا وراء شعارات وبقيت تتحكم في كل مفصل من مفاصل حياتنا العربية، الانتماء الأيديولوجي العقيدي الفكري السياسي، سواء كان الانتماء عقدياً أم وضعياً، وفي كل الرحلة كان هذا الولاء مرتبطاً بالآخر وبصور متعددة، دينياً أو طائفياً أو يساراً أو يميناً، ونحن دون الأمم كلها، ارتبطت طوائفنا وعقيدتنا التي هي لنا بالآخر، فصار الخليفة والمنقذ ليس منا! والانتماء لجهات الأرض من شرق وغرب، وجيلنا قضى عمره وهو يتابع هذا الرهان بين معسكرين، ثم بين قوتين، وأدرك الجميع أنه لا خلاف بين شرق وغرب في امتلاكنا والسيطرة علينا وعلى مواردنا وعقولنا، وتحويل حياتنا حسب خططهم المرسومة، سواء كانوا متفقين أم مختلفين، ومهما كان وضعهم فسيصلون إلى اتفاق، ونبقى نحن الثور في الحلبة الذي ما إن تنتهي جولة الفرجة حتى يصبح لحمه الذي يكتنزه غاية.. والانتماء للأشخاص والأفكار، فمنذ تاريخنا القديم لم نحسم الأمر بانتمائنا للأشخاص، واليوم ارتباطنا بالأشخاص، وأحكامنا مرهونة بهم سلباً أو إيجاباً، والضياع يحكم علينا كل فاصلة في حياتنا، وتتمدد هذه الانتماءات لتشمل حياتنا وتتواشج، ولكنها تتجنب الوصول إلى الأصل والغاية، لا تصل إلى الانتماء للأرض والهوية، وحين تصل إلى الهوية تتلاشى الانتماءات كلها ويبقى الوطن.. ومع ذلك لا تظهر هذه الصورة.. وحدها ذرات التراب إن لذنا بها فستكون قادرة على صنع وطن وانتماء وهوية وقوة دون أي جهد أو عناء.
فاسد ولد من رحم الفساد، ورأس القلم أبى إلا أن يحدده ويحدد مصدره، فهو فاسد وليس مختبئاً، ومعروف بأسه وأساسه، لم يمارس أي نوع من التدليس والخداع، وفساده هذا جعله في مواقع كثيرة، فأنشأ منظومته، وطوّب ما هو فيه على رؤاه الفاسدة، وفعل الأفاعيل، وحين تمكن من تثبيت دعائمه عملت ورشاته على ضخ الفساد والجهل، وألغى مجرد التفكير بالانتماءات، حتى تلك الانتماءات الثلاثة الكارثية رفضها في نهجه وعمله، وصار هو المحور، واغتنم اللحظات، وبين لحظة وأخرى كان يخرج عن إرادة الانتماء التي اختارته، وصنع لنفسه محوراً خاصاً من أصدقائه ومحبيه ومريديه، وربما صنع طبقة خاصة به، ويفعل كل ذلك ظناً منه باستمراريته وبقائه، وما إن يغادر حتى تصبح المحاور عديدة، والانتماءات أكثر ضيقاً، وتضيع المؤسسات والوزارات والإدارات لأنه لا يقبل أن يتنفس الناس إلا من منخره ولو كان فاسداً! وهؤلاء يصبحون مالكين للقدرة، وتحت ذرائع كثيرة يترصدون أي بارقة لاصطيادها، يصنعون بركة آسنة لا حركة فيها على الإطلاق، وليس المهم أنها لا تحوي سمكاً راقصاً ومبدعاً وجميلاً، لكن المهم أنها لا تخرج عن سيطرتهم! وعندما تنتهي مهامهم، وقد حصل مع عدد منهم، يعودون بوقاحة للتواصل مع الطيبين وممارسة نقدهم لما صار إليه وضع مؤسسة، لا لشيء، إلا لأنها خارج سيطرتهم، وكان رأس القلم يصدر صوتاً جارحاً وهو يحاول أن يصور ما هم عليه من واقع مرير.. لكنه كان.
ثالث الرؤوس من الأقلام ما نسمعه من السادة العلماء منذ أمد بعيد، وزاد في العقد الأخير، من أن ما حلّ بنا من أزمات ناتج عن بعدنا عن الله! وكأن العالم المتحضر المتحكم على علاقة وطيدة مع الله! أفهم أن يتحدث عن علاقتنا فيما بيننا، أما عن العلاقة مع الله فهي أمر آخر، وماعلينا إلا الصبر والعودة إلى الله، يقول هذا ونحن أبعد الناس عن الله، بما في ذلك رجال الدين، هم الذين يحصلون على كل شيء، لكنهم أي الدعاة، مصممون على جلدنا وتحميلنا وزر ما نحن فيه، فلا علاقة للعالم الآخر، ولا للفساد؟، ولا لهم نفسهم فيما وصلنا إليه، لتخرج بعد الموعظة، وأنت ترغب أن تجلد نفسك جزاء ما ارتكبت فأوصلتنا إلى ما وصلنا إليه..!
حين انتهى صديقنا من التفكير وتدبيج رؤوس الأقلام اكتشف أن قلمه بلا رأس، فهو من نوع الرصاص الذي ينكسر عند أول مجابهة مع انتماء أعوج أو فساد طاغ أو داعية مداهن..!