بعد خروج نيلسون مانديلا من السجن في شباط 1990 ثم توليه منصب رئاسة جنوب إفريقيا في 1994، قال: «نعلم جيداً أن حريتنا غير مكتملة من دون حرية الفلسطينيين».
في 29 كانون الأول الماضي رفع «أحفاد» مانديلا في دولة جنوب إفريقيا دعوى ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين، تتضمن انتهاك إسرائيل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية عبر «قتل الفلسطينيين في غزة، وإلحاق الأذى الجسدي والعقلي الخطير بهم، وإخضاعهم لظروف معيشية لتدميرهم جسدياً»، مع المطالبة بالوقف العاجل للحرب التي تشنها إسرائيل.
وفي 26 كانون الثاني الماضي، صدر عن محكمة العدل الدولية، قرار بفرض «تدابير مؤقّتة» وهي:
أولاً: تتّخذ دولة إسرائيل، بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، في ما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من هذه الاتفاقية، ولاسيما: القتل، والتسبب في ضرر جسدي أو نفسي، تعمّد إخضاع المجموعة لظروف معيشية يُقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، وفرض تدابير تهدف إلى منع الولادات.
ثانياً: تضمن دولة إسرائيل، بأثر فوري، عدم ارتكاب جيشها أي أعمال موصوفة في النقطة 1.
ثالثاً: تتّخذ دولة إسرائيل جميع التدابير التي في وسعها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.
رابعاً: تتّخذ دولة إسرائيل تدابير فورية وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية لمعالجة ظروف الحياة الصعبة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة.
خامساً: تتّخذ إسرائيل تدابير فعّالة لمنع التدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بادّعاءات ارتكاب أعمال تدخل في نطاق المادة الثانية والمادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في غزة.
سادساً: تقدّم دولة إسرائيل تقريراً إلى المحكمة عن جميع التدابير المتّخذة لتنفيذ هذا الأمر في غضون شهر.
يشكّل القرار بداية مسار قضائي طويل قد يستمر لسنوات وهو يحيل إسرائيل «كدولة» إلى المساءلة القضائية ووضعها في قفص الاتهام وهذا أمر كاد أن يكون من المستحيلات، لكنه حدث.
القرار يطلب من الكيان الصهيوني منع القتل، ومنع التسبّب بضرر جسدي أو نفسي خطير للفلسطينيين، من دون أن يطلب وقف العمليات العسكرية في قطاع غزة المحاصر، ويأمر القرار إسرائيل بتدابير «فورية وفعّالة» لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
تنصّ المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية بأنه «للمحكمة أن تقرّر التدابير المؤقتة التي يجب اتخاذها لحفظ حقّ كل من الأطراف، وذلك متى رأت أن الظروف تقتضي بذلك، وإلى أن يصدر الحكم النهائي، يُبلّغ فوراً أطراف الدعوى ومجلس الأمن نبأ التدابير التي يرى اتخاذها»، ما يعني أنه في حال امتناع إسرائيل عن تنفيذ القرار، وهو المتوقع، فلجنوب إفريقيا الحق في مطالبة مجلس الأمن بإصدار قرار لتنفيذ التدابير المؤقتة.
ومن المتوقّع أن تستخدم الولايات المتحدة حق النقض، أو ربما تمتنع عن التصويت لقرار يكون مبنياً على حكم قضائي، لا على اعتبارات سياسية، عندها يمكن أن يصدر القرار عن مجلس الأمن بإلزام إسرائيل بتنفيذه مع وجود احتمال بعدم التزام إسرائيل بالقرار، أسوة بقرارات سابقة عن مجلس الأمن لم تلتزم بها، وفي حال استخدام الولايات المتحدة حق النقض أو في حال امتناع إسرائيل عن التنفيذ، يمكن لجنوب إفريقيا، ومعها المجموعتان العربية والإسلامية ودول أخرى داعمة، اللجوء إلى الجمعية العامة بموجب قرار «الاتحاد من أجل السلام»، كما فعلت سابقاً بخصوص القرارين السابقين لوقف إطلاق النار.
وهذه المرّة سيحصل القرار بوقف إطلاق النار على أغلبية ساحقة من الدول الأعضاء، وقد لا يقتصر مضمون قرار الجمعية العامة هذه المرّة على مجرّد وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، بل قد يُلزم إسرائيل بتنفيذ ما ورد في التدابير المؤقتة مع تصعيد «عقابي» يتمثّل بقطع العلاقات الاقتصادية والديبلوماسية، وقد يتم التهديد بتعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، وهذه مسؤولية كل الدول، إزاء ما يجري من قتل وتشريد وتجويع كلّها تدخل في نطاق الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة، وقد تتّخذ بعض الدول مواقف، كانضمام الدول المؤيدة لحماية الفلسطينيين إلى الدعوى بصفة «متدخّل»، كما حدث في قضية غامبيا ضد ميانمار.
لم تلتزم المحكمة بما طلبته جنوب إفريقيا وخصوصاً في ما يتعلق بالوقف الفوري للعمليات العسكرية، إلا أن وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، ناليدي باندور، اعتبرت في مؤتمر صحفي أنه لا يمكن تنفيذ أوامر محكمة العدل من دون وقف إطلاق النار، عملياً لا يمكن تنفيذ الإجراءات الوقتية إلا بعد وقف إطلاق النار.
وهذا ما أكده أيضاً الخبير في القانون الدولي أنيس القاسم قائلاً: «إن ما تطلبه المحكمة من إسرائيل لا يتم تنفيذه من دون وقف إطلاق النار» مضيفاً: «من غير المعقول أن يتم رفع الحصار عن المواد الغذائية والمياه والدواء في ظل استمرار القصف» كما في دعوى غامبيا ضد مانيمار.
ادعى القضاة أن الحجّة القانونية لعدم فرض وقف العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي في غزة، هي أن العمليات العسكرية ليست بين دولتين كما في دعوى غامبيا ضد مانيمار، والمحكمة تذرعت بأن ذلك يخرج عن نطاق صلاحياتها، فهي تخاطب فقط الدول.
من جانب آخر تقول الصحفية المعتمدة لدى الأمم المتحدة دينا أبو صعب إنه في حال تجاهلت إسرائيل أو امتنعت عن تنفيذ قرارات المحكمة فإنه من الممكن أن تتم إحالة الأمر لمجلس الأمن الدولي وللجمعية العامة للأمم المتحدة، والوصول لمجلس الأمن سيضع الأمر مجدداً رهن الفيتو الأميركي، بعد أن تم استخدامه عدة مرات سابقة منذ بدء الحرب ضد قرار وقف إطلاق النار، وفي حال حدوث ذلك فإنه «يضع الأمم المتحدة في نقطة حرجة جداً في تاريخها»، فالمحكمة هي المرجع القانوني الأول للأمم المتحدة وأعلى سلطة قضائية في العالم، ما يضع كل مهامها قيد إعادة النظر.
اعتبرت صحيفة «الأنديبندنت» قرار محكمة العدل الدولية كارثياً على إسرائيل، وذكرت صحيفة «فايننشال تايمز» أن الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل حظيت بمتابعة وبقدر من الجدل السياسي لم يسبق له مثيل في العالم، بالمقابل تنظر محكمة أميركية في دعوى رفعتها منظمات حقوقية فلسطينية وفلسطينيون في غزة وبالولايات المتحدة ضد إدارة الرئيس جو بايدن بسبب تورطها، حسب الدعوى، في الإبادة الجماعية في غزة.
وعلى صعيد ردود فعل إسرائيل، رفض رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بوقاحة الاتهام بارتكاب إبادة جماعية، وبعد عاصفة التشكيك واتهامات معاداة السامية بحق محكمة العدل الدولية، كان رد إسرائيل العملي، بقتل أكثر من 190 فلسطينياً في يوم واحد، كما فاجأت إسرائيل العالم باتهامها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة «أونروا» بأن موظفيها متواطئون مع المقاومة الفلسطينية، في إطار محاولة الكيان الصهيوني العنصري لشيطنة مؤسسات الأمم المتحدة وإثارة الجدل والتشكيك في موظفيها وسياساتها وقراراتها.
وجاءت مسألة تجميد التمويل كتعطيل حقيقي وعملي لقرار محكمة العدل الدولية بحق إسرائيل، لعلَّ أهم نتيجة لدعوى جمهورية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، هي كسر الحاجز النفسي وإيجاد سابقة قانونية في غاية الأهمية قد تفتح شهية دول أخرى لرفع قضايا جديدة ضد إسرائيل.
ويبقى الأمل قائماً في أن يكون لهذا القرار «التاريخي الذي لم يسبق له مثيل»، كما وصفته وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، أن يكون آليات لتنفيذ توصياتها ووضع حد فوري وحاسم لإراقة دماء الفلسطينيين أصحاب الأرض.
وزير وسفير سابق