كثيراً ما تتضارب التقارير الصادرة عن أطراف الصراع الدائر في غزة منذ نحو أربعة أشهر، والفعل إياه ينطبق أيضاً على معسكر «الوسطاء» الذي تكاثفت جهودهم لإنجاز «صفقة كبرى» لا تزال بنودها التي سترسو عليها شديدة الغموض، ووحده الموقف الأميركي يبدو أكثر وضوحاً، بمعنى أن سيل التصريحات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين تبدو متسقة في سياق واحد ولا تضارب فيها، وكلها تصب في إطار لا يخفي ضرورة التوصل إلى اتفاق يقضي بوقف طويل لإطلاق النار، الأمر الذي يمكن تلمسه من خلال تقرير كانت صحيفة «وول ستريت جورنال» قد نشرته يوم الأربعاء الماضي وجاء فيه: إن «إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تدفع إسرائيل نحو وقف إطلاق نار طويل الأمد في قطاع غزة»، ومن دون شك تملك الولايات المتحدة الأدوات اللازمة والكفيلة للوصول بذلك الدفع على ضفتي الصراع، فعلى الضفة الإسرائيلية يمكن القول: إن التأثير الأميركي على كيان الاحتلال قد لا يحتاج لكثير عناء لشرح المدى الذي يمكنه الوصول إليه، وعلى الضفة الفلسطينية تملك واشنطن عوامل تأثير ليست بقليلة على المقاومة عن طريق «الوسيطين» القطري والمصري اللذين يملكان بدورهما أوراق ضغط على هذي الأخيرة، الأول عبر «سيف التمويل» والثاني المسيطر على المعابر التي تمثل «رئة» لا بديل عنها لتنفس القطاع برمته.
في غضون الأسبوع الفائت كانت الإشارات المتناقضة الصادرة عن حكومة الاحتلال عديدة وتكاد تكون يومية، ففي أعقاب الاجتماع الذي عقده «كابينيت الحرب» يوم الخميس الماضي، والذي أعقبه اجتماع «الكابينيت الموسع» بساعات، أعلن مصدر إسرائيلي وفقاً لصحيفة «هآرتس» أن المناقشات دارت في تينك الاجتماعين حول «عدد الأسرى الفلسطينيين الذين سيفرج عنهم»، في حين نقلت «القناة 12» الإسرائيلية عن مصدر آخر قوله: «إن الخلاف سيكون حول أسماء الأسرى وليس عديدهم».
مرد هذا التناقض يعود لانقسام في غرف صناعة القرار الإسرائيلي فاليمين المتطرف، ممثلاً بالوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، يريان أن وقفاً لإطلاق النار سوف يعني بقاء «حماس» في السلطة أقله في الجنوب من قطاع غزة إذا ما كان طويل الأمد، وأن هذا يعني أن أهداف الحرب المعلنة لم تتحقق ما ستترتب عليه تداعيات على الكيان شديدة الخطورة، في حين يرى المعسكر الآخر، ممثلاً بعضوي مجلس الحرب، غادي إيزنكوت، وبني غاننتس، أن عقد صفقة حتى وإن كانت بتنازلات كبيرة بات أمراً ضرورياً، بل إن زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، كان قد قال يوم الـ31 من الشهر الفائت إن قائمته «ستوفر للحكومة شبكة أمان لأي اتفاق يعيد المخطوفين»، وما بين المعسكرين يأتي موقف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يحاول الإمساك بالعصا من منتصفها خشية تفكك وانهدام الائتلاف الذي أبصرت حكومته النور من خلاله في الأيام الأخيرة من العام قبل المنصرم، لكن، على الأرجح، يمكن القول إن نتنياهو يجد نفسه أقرب إلى موقف المعسكر الأول لأنه يدرك أن إعادة المخطوفين مقابل إطلاق سراح الآلاف من الأسرى الفلسطينيين سوف يفسر من جمهوره، قبل الآخرين، على أنه علامة دامغة على الفشل.
بالمقابل تبدو هناك العديد من الإشارات الصادرة عن المقاومة بشقيها العسكري والسياسي، وهي بالمجمل لا تعبر عن موقف واضح أو هو متسق تماماً، ولربما كان مرد ذلك يعود لأمر من نوع أن الساسة لا يريدون فرض مواقف أو خيارات على قادة الميدان بوصفهم الأشد التصاقاً بآلام وأهوال غير مسبوقة في هذا القرن، وأن إخفاق الاستثمار في مجريات الميدان سوف يشكل منعطفاً من الصعب التنبؤ بمآلاته الآن.
وكان من اللافت انتقال الإشارات الأميركية الرامية للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو من مرحلة التصريحات إلى مرحلة التطبيق في مرمى يفيد أن واشنطن لن تقبل تحت أي ظرف كان بأن يقف اليمين الإسرائيلي المتطرف في وجه مخططاتها ذات الأبعاد الإقليمية والدولية، ففي يوم الخميس 1 شباط الجاري قامت واشنطن بفرض عقوبات على مجموعة من المستوطنين، ممن ينضوون تحت عباءة، ايتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، على خلفية «قيامهم بنشاطات معادية للفلسطينيين في الضفة الغربية»، والفعل من حيث التحليل يهدف إلى ردع حالة التطرف لدى الأخيرين اللذين يسجلان يومياً طبعات جديدة منها، وإلى «ترويض» بنيامين نتنياهو والعمل على إبعاد مواقفه عن هذين الأخيرين، ومن الراجح أن تكون تلك العقوبات مقدمة لنظيرات لها في حال لم ينجح فعل «الترويض» آنف الذكر مع نتنياهو الذي باتت «أياديه» كلها في النار ومن الصعب عليه تحديد أيها الأكثر ضرراً.
على مشارف الشهر الخامس للعدوان تبدو صورة الميدان شديدة السواد على ضفافها الإسرائيلية، في حين تبدي المقاومة صلابة في قاعات التفاوض لا تقل عن تلك التي تبديها في ميادين القتال، والشاهد هو أنها قاب قوسين أو أدنى من نجاحها في لعبة «عض الأصابع» التي فرضت عليها منذ أن بدأت جولات التفاوض الرامية للوصول إلى صفقة تتعدى تلك التي حدثت أيام هدنة الأيام السبعة، وفي تكامل الصورة يمكن الجزم بأن فرضية «اليوم التالي» للحرب قد تهشمت بل وبات تداولها ضرباً من لا واقعية تريد استحضار الأماني على حساب معاينة الواقع.
كاتب سوري