حفل موسيقي في أربعين الموسيقار الراحل نوري اسكندر … وزيرة الثقافة: فقيدنا علم من إعلام سورية ورموز إبداعها وأوجد لغة موسيقية جديدة
| مصعب أيوب- ت. طارق السعدوني
مقطوعات موسيقية تفتتح بها الكثير من العروض على مسارح دار الأسد للثقافة والفنون، ولكنْ قليلون هم من يعرفون أن هذه المقطوعات هي مقطع موسيقي من الحركة الثالثة من «كونشرتو» العود الذي ألفه الموسيقي الراحل نوري اسكندر، وكلما سمعناه يحملنا إلى عالم آخر مقترناً بالثقافة والهوية والفن من دون أن نعلم.
وبمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الموسيقار السوري نوري اسكندر فقد أقامت وزارة الثقافة على مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون حفلاً موسيقياً لمجموعة من أعمال الراحل نوري اسكندر، وقد أحيا الحفل الفرقة السمفونية الوطنية السورية بمشاركة كورال المعهد العالي للموسيقا وكورال الحجرة وجوقة الفرح ومشاركة محمد عثمان على العود والبزق ومحمد نامق تشيللو ولاميتا إيشوع غناء.
لغة موسيقية جديدة
في كلمة لوزيرة الثقافة د. لبانة مشوح قالت: هذه أمسية موسيقية آثرنا أن نهديها إلى روح الموسيقار نوري اسكندر الشرقي الهوى، السوري الجذور، العالمي الانتشار، علها أن تبلسم الروح المتعبة فتنقلها من عالم القبح والهمجية إلى سماء الرقي والإبداع.
وتابعت مشوح: فقيدنا اليوم علم من إعلام سورية ومن رموز إبداعها وما تركه يعد بصمة لا تمحى في تاريخ موسيقانا العربية، هو رمز إبداع سورية المعاصر المتجدد في التراث والقيم الإبداعية التراثية، فجمع نوري اسكندر عمق الثقافة وسعة العلم وغزارة الإنتاج، وخرج من كل ذاك بتوليفة فكرية وصنعة فنية استحق عليها بجدارة لقب موسيقار سوري عالمي، عشق أصالة هويته ومنها استمد رؤيته الإبداعية، فكان عشق التراث منطلقه للحداثة من أوسع أبوابها.
ولفتت إلى أن اسكندر درس الألحان الآرامية التي كانت تنشدها الجوقات قبل المسيحية وبعدها، وتعمق في كيفية انتقال هذه الألحان والتراتيل الآرامية السريانية مع الإسلام إلى اللغة العربية وبعد أن تعمق في سمات الألحان الآرامية القديمة وتفاصيلها وأساليبها، ونظر فيما يقابلها من سمات تمتاز بها الموسيقا العربية خلص إلى نتيجة مهمة ربما لم نسمع بها من قبل، مفادها أن الموسيقا الآرامية أثرت بعمق في الموسيقا العربية والموسيقا الغربية السورية تحديداً، ولاسيما في العتابا وفي المواويل وفي الميجنا.
كما أشارت أن الراحل اشتغل على الموسيقا الشرقية وكان أحد أهم أعمدتها وأول من جمعها في مؤلفين ضخمين فكان له الفضل في توثيقها بنقلها من المشافهة إلى المدونة، وهذا ما نتكلم عنه عند الحديث عن تراثنا اللامادي.
وختمت بأن مشروع نوري اسكندر يختصر بالمعادلة التي تقول إيجاد لغة موسيقية جديدة لتوليفات هرمونية مع الحفاظ على ميزات المقامات الشرقية، فقدم لغة موسيقية تنطلق إلى آفاق جديدة وصولاً إلى موسيقا سورية حديثة متجذرة في الماضي ومحافظة على أصالتها ومتطورة في رؤيتها وتوليفاتها.
طابع متميز
في كلمة لـ«الوطن» بينت مدربة القسم الجامعي في جوقة الفرح رجاء الأمير أن الاحتفاء بالعظماء أمر ضروري ومهم ولابد من تكريمهم وهم على قيد الحياة والتذكير بهم وبأعمالهم ومنجزاتهم حتى بعد أن يغادرونا، مؤكدةً أن الأعمال التي خلفها نوري اسكندر لها طابع مختص ومتميز للموسيقا السورية السريانية، والعرض الموسيقي اليوم سيكون حوار المحبة الذي ينم عما فيه حيث أن جميع الأديان تغني المقامات والطريقة الموسيقية القديمة نفسها بمختلف معتقداتها.
وتابعت: كان دوري في تدريب طلاب يؤدون تراتيل كنسية وموسيقية سريانية صعباً لمساعدتهم في تقديم وعرض موشحات دينية إسلامية، فلا بد من خلق قناعة لديهم بما يتفوهون به بعيداً عن الجانب الإيماني وكل ما نردده احتراماً لأديان أخرى ليس بالضرورة أن نتبناه.
موسيقا سريانية
من ناحيته بين طالب التخرج والمغني فادي زرقة أن الكورال سيقدم حوار المحبة الذي هو أحد أهم مقطوعات الراحل نوري اسكندر الذي وضع فيها مجموعة من أهم الألحان السريانية بشكل منسق ومنمق وأكاديمي مقدماً موسيقا سيريانية للسمفونية والكورال.
ولفت زرقة إلى أن حوار المحبة هو من أكثر الأعمال التي يحبها للراحل حيث أن مجموع ما قدمه نوري تم تجميعه ضمن حوار محكي فيه جزء من الألحان الإسلامية والسريانية وغيرها من الديانات السماوية، ويتضمن عدداً من المقطوعات بطريقة متتالية ليقدم حواراً ممتعاً وجاذباً وغنياً.
شهادات فيه
كما تم عرض فيديو توثيقي لبعض المحطات المحورية في حياة الراحل وشهادات فيه لبعض المقربين والمختصين في الشأن الموسيقي ومنهم:
الموسيقي سمير كويفاتي: عندما عاد نوري اسكندر من القاهرة يحمل شهادة في الموسيقا لا يحملها غيره، اختار أن يضعها جانباً معتبراً أن ما درسه وتلقاه من علوم لا بأس فيه ولكنه ليس ما يطمح إليه، حيث كان يريد أن يفتح أفقاً جديداً لم يفتحه أحد من قبل.
الأب الياس زحلاوي: نستمع في بعض الأحيان إلى موسيقا يقال إنها إسلامية وهي بالحقيقة موسيقا سريانية ومسيحية ولكن لم يأت من يستطيع كشف جذورها كما فعل نوري اسكندر، وقد نوّط ودوّن كل ذاك التراث القديم في مؤلفات تشكل اليوم مراجع أساسية لمن يريد أن يكتشف الأصول الموسيقية في سورية وتشعباتها الكبرى وامتداداتها إلى العالم.
ابنته سوسن نوري اسكندر: كان يقول دائماً إن الموسيقا التراثية هي ضرورة أساسية لتأسيس موسيقا معاصرة، حيث لا يمكننا بالوقت الحاضر الانتقال لمراحل جديدة وتطوير أي شيء إذا لم نكن نعرف الجذور الأساسية في ذلك، فهو انطلق من الجذور وتشبث تماماً بها ليمتد بها إلى مساحاته وتجلياته الخاصة.
الراحل في سطور
ولد الراحل على ضفاف الفرات 1938 وتنقلت عائلته بين عين عرب وتل أبيض في مدينة دير الزور ومن ثم إلى حلب، وتكثر التنقلات ويكثر معها شغفه بالموسيقا التي هاجر إلى مصر لتعلمها، وعليه فقد حصل 1964 على ليسانس من المعهد العالي للتربية الموسيقية في القاهرة.
وأسس الكورال السرياني بحلب 1965، كما أسس 1970 فرقة شاميرام في بيروت، كما أقام في العام 1973 حفلاً موسيقياً في بيروت في قصر اليونسكو شارك فيه الفنان اللبناني الراحل وديع الصافي وقدمت فيه أغان من شعبيات سريانية، كما سجل ووزع العديد من الأغاني السريانية في الكثير من المدن الأوروبية ومنها باريس وبروكسل وجنيف.
في الثمانينيات درّس في حلب وشغل منصب مدير المعهد العالي للموسيقا، وقد عرف الراحل بالمعلم بين محبيه وتلامذته.
يعتبر اسكندر من أكثر الباحثين والمؤلفين الموسيقيين السوريين اهتماماً بتوثيق الموسيقا السورية القديمة ولاسيما السريانية الكنسية منها والمدنية، وقد استغرق ثماني سنوات في حفظ وتدوين الموسيقا المشرقية القديمة في كتابين ضخمين حملا اسم بيت كازوا واحتويا أكثر من تسعمئة لحن، ويسجل إنجازه بتحول تلك الموسيقا من تراث شفهي معرض للضياع إلى مدونات جمعت ووثقت وبقيت حاضرة.
تمرده الإبداعي دفعه إلى تحقيق تداخل للأجناس والعلاقات بين المقامات الشرقية والغربية عبر تجارب كثيرة منها الثنائي الوتري وكونشرتو لآلة العود وكونشرتو لآلة التشللو بمرافقة الأوركسترا، وقد أنجز أعمالاً لافتة منها حوار المحبة ويا واهبة الحب والآهات وقصيدة خطامة.