سؤال مهم طرحته الأميرة منتهى عند الرحابنة عن نقاء الشال فيما لو جاء المستعمر إلى البلاد، حين قالت: يا هل ترى شالك النقي بيبقى نقي، وأهمية هذا السؤال أنه لا يعتمد على الحذلقة والتنظير والسياسة، وإنما يعتمد على فكرتين، الأولى نقاء الشال، والثانية ذاتية، فالشال يخص الأميرة منتهى، وكل من ينتمي إلى الوطن الذي خرج منه من يدعو الباب العالي لاحتلال البلاد.. وربما كانت هذه العبارة من أهم العبارات في الدلالة على الانتماء للذات والنقاء، فأنت عندما تحرص على الأشياء لا تحرص عليها من أجل أرض، أو من أجل أحد، بل من أجل الذات والنقاء، أي من أجل الحياة التي يمكن أن تتغير بين لحظة وأخرى لتفقد النقاء والطهر والذات.. وهذا الأمر لا يقتصر على جانب واحد، فالأميرة كانت تتمنى أن يصل ما تريد الإخبار عنه من أخطار إلى الأمير، وهي ليست معه ولا توافقه الرأي والسياسة، لكن المفهوم الذي تبحث عنه في التجريد والمطلق يجمعها مع من تختلف معه، فكما سيذهب واحد إلى الباب العالي، كذلك عند الأمير من يؤلب عليه الهدوء والمحبة.. البحث عن النقاء ضرورة من كلا الجانبين، وليس من جانب واحد، فمن حق الباحث عن النقاء أن يحيا حياة فيها الكثير من النقاء أو القليل، وليس من حق واحد أن يدفعه بكلتا يديه لشتم النقاء وتغيير قناعاته.
المنطلق الأول في الحياة ولا شيء سواه هو المبادئ، فمهما كانت انتماءات الناس وقناعاتهم ومعتقداتهم الدينية أو السياسية، لابد من أن تكون حياة كل واحد ناتجة عن قناعات لا تتغير، وإن لم تتفق مع إيديولوجيته أو توجهه السياسي القابل للتغيير، فالحياة والإنسان والحقوق كلها قضايا لا يمكن أن تتغير بحال من الأحوال مهما كانت الإيديولوجيا، مفهوم الوطن والفصل بين الحكومة والدولة ألقي فيه الكثير، وقيل فيه الكثير، وهو بمنتهى الصحة، ولكن هذا لا يعني أن يتغلب مفهوم الوطن على الحياة والحق، ولن يقدر واحد في العالم أن يدّعي بأنه يرتبط بمفهوم الوطن بمعزل عن الحكومة والدولة، فالمفهوم الضيق للحكومة والسلطة كان وما يزال ضرورة، لكنه ضرورة لتحقيق المفهوم الأسمى للمواطنة، وبصورة أدق، وجد لخدمة المواطنة ولتسيير أمور الحياة، ولا يمكن الفصل مطلقاً بين الحكومة التي تصدر أوامرها في مكاتبها المغلقة، وتفرضها على المواطن دون أن تأخذ في حسبانها حاجاته وإمكاناته، وبين مفهوم المواطنة، فهل يمكن لواحد ينام على أمر ويستيقظ على أمر دون أن يبالي واحد به أن يتجاهل هذا الأمر الخطير؟ ألا تمثل الأوامر الحكومية المنظومة التي يحيا فيها المواطن؟
ألا يحق للمواطن أن يسأل: كيف تكون الحياة بالسعر الأعلى والدخل الأقل من أي مكان آخر في العالم؟ أليس من حقه أن يرفض ادعاء الحكومة دوماً بأن كل شيء دون سعر التكلفة؟ أليس من حقه أن يتساءل عن أي سعر تتحدث الحكومة؟
حكومات المكاتب لا تصنع وطناً، وليس بإمكانها أن تخدم مفهوم المواطنة!
كيف لها أن تفعل والواحد فيهم يتعامل بمظهرية مطلقة، ولا يأخذ في حسبانه هذا الذي يتولى أمره؟ حكومات تقوم على الاستنساب والحب والكره والقرب والمصلحة هل يمكن أن تكون ممثلة لمفهوم المواطنة؟
هل بإمكان طبقة تنفيذية مصلحية أن تعمل على تعزيز المبادئ لدى المواطن؟
ثمة فرق كبير بين الكلام والتطبيق، بين الممارسة والمطلوب، بين التجسيد المطلق للموقع بالشخص وإدراك أن الوطن يبقى، وأن الموقع التنفيذي منوط بالشخص لمرحلة من الزمن، لابد أن تنتهي بدافع السيرورة، وتنتقل دفة الإدارة أو الوزارة لشخص آخر، عندها سيتم العمل لمصلحة الإنسان العامل والموظف، وليس للمصلحة الذاتية التي ما إن تنتهي بانتقال الموقع إلى آخر، وربما تحوّل هذا المتسلط بانتهاء صلاحياته إلى ناقم لأنه لن يكون قادراً على فنادق النجوم الخمس، والنوادي الفارهة في أحياء دمشق الراقية!
وقد شهدنا خلال الحرب على سورية مثل هذه الأصناف التي كانت وراء الفساد وخراب البلد، ومن ثم عندما انتهت صلاحياتها، انتقلت لتصبح مدافعة عن المواطن في مواجهة ما يعيشه، ولكن من موقع آخر!
أكثر المنظّرين اليوم ينظّرون ويطلبون الخلاص من مزايا ترهق الوطن، في نظرهم، ولكن بعد أن استفادوا واستهلكوها، أما سمعتم من يطالب بإلغاء مجانية التعليم؟ وبحجة حاجتنا إلى مهن لا شهادات، وحضرته لم يقف في هذه المكانة لولا استمتاعه بالمجانية، علماً أن التعليم ليس مجانياً كما يدّعي هو وغيره.
الدعوة الأكثر جدارة أيها المنظّرون يجب أن تكون لمجانية التعليم ومكافأة المتعلم لأنه سبيل بناء سورية، وإلى زيادة الدعم ليبقى المواطن، وإلى ِأشياء كثيرة غير التي يقولون فيها، لأن نظام الدولة ينظر بعين البناء لا بعين الهدم.
حين يلوث الشال علينا أن نؤمن وسائل تنظيفه وتصنيع البدائل بالحب لا بالحرمان والتمزيق لهذا الشال الذي حدث عنه الرحابنة.
شال المواطن لبقاء الدولة والحفاظ على مكوناتها وعلى الإنسان، وشال الحكومة يختص بفئة من المتنفذين الذين لا تعنيهم الدولة، ولا تعنيهم دعامتها وهو المواطن.. بلغت الروح الحناجر فماذا ينتظر المنظّرون على مستوى الحكومة والمستشارين والإيديولوجيين الحزبيين؟
الدولة أهم من الأشخاص ومزاعمهم، والرموز يحافظ عليها الوطن والمواطن وليس أصحاب المصالح الضيقة، فليخرجوا من اللعبة.