بدأت الصين، في الأعوام الأخيرة في التحول عن نموذج التنمية الاقتصادية القائم على التصدير، وتبني إستراتيجية «التداول الداخلي» التي تؤكد توسيع الطلب المحلي، وإنشاء سوق محلية كبيرة لدرجة استيعاب دولة يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة.
«التجربة الصينية» واحدة من أهم التجارب التي أدهشت العالم، حيث حققت إنجازات التنمية المستدامة والمتسارعة والإبداع الإلكتروني خلال الـ30 عاماً من تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، وحظيت بإعجاب العالم وباهتمام العلماء والباحثين، لأن التنمية في الصين أظهرت للعالم معنى الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، كما أولت القيادة الصينية أهمية كبيرة لحث شعبها على التعلم والاهتمام بعملية البناء الذاتي للفرد والمجتمع والدولة لتحقيق التنمية الاقتصادية السريعة، وتوسيع آفاق الفكر الإبداعي التكنولوجي، ونقل المعرفة والابتكارات وتطويرها بدقة عالية، إضافة إلى تحديد الأولويات في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وتشجيع الاختراعات الوطنية وتوسيع مجالات تطبيقها.
أصبح الغرب الآن أكثر عدائية تجاه الصين، ومع بذل الولايات المتحدة جهوداً أكبر من أي وقت مضى لاحتواء الصين، انخفضت الصادرات الصينية المباشرة إليها.
تظهر دراسة حديثة أجرتها الخبيرة الاقتصادية في جامعة كاليفورنيا سان دييجو، كارولين فرويند، أن الولايات المتحدة والصين تعملان بالفعل على تقليص مشاركتهما في بعض المجالات، فعلى سبيل المثال فإن نمو واردات الولايات المتحدة من الصين تتخلف كثيراً عن نمو واردات الولايات المتحدة من دول أخرى بالنسبة إلى المنتجات الخاضعة للتعريفات الجمركية الأميركية.
في الوقت نفسه، الشركات العالمية تعمل على تطبيق إستراتيجية «الصين+1»، فتستثمر في دول أخرى إضافة إلى الصين، لكن ليس بديلاً منها، من جانبها، قامت الشركات الصينية بزيادة استثماراتها الأجنبية المباشرة في الأعوام الأخيرة ونشرت سلاسل الإنتاج الخاصة بها في أماكن بعيدة جداً عن الصين، وخاصة في الدول التي يمكنها تجنب الرسوم الجمركية الأميركية العقابية، وعلى الرغم من التعريفات الجمركية الأميركية، ظلت الصادرات الصينية قوية، وفي الوقت نفسه، تشهد قطاعات جديدة، من الخدمات والاقتصاد الرقمي والصناعات التكنولوجية المتقدمة، نمواً سريعاً.
الحكومة الصينية تعمل لدعم الطلب المحلي وإيجاد فرص العمل، وذلك من خلال اتباع سياسات نقدية ومالية أكثر توسعية خلال العامين المقبلين.
والعمل على التعجيل بتحرير بعض الصناعات، فعلى سبيل المثال، يصار إلى التخلص من القيود في أقرب وقت ممكن على الخدمات الإنتاجية التي تمنع دخول رأس المال الخاص والأجنبي، كما سيتطلب النمو الاقتصادي مزيداً من الإنفاق على الاستهلاك الأسري ومن المتوقع أن تعمل الصين بشكل عاجل على خفض حصة الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي ودعم الاستهلاك الأسري، على سبيل المثال من خلال تحويلات الدخل وبرامج أقوى للرعاية الاجتماعية، التي من شأنها أن تمكن الأسر من تقليص المدخرات الاحترازية وسيؤدي ذلك إلى إيجاد سوق محلية مزدهرة وتشجيع التوسع في صناعة الخدمات ودعم التحول إلى النمو المستدام.
اعتمد النمو الاقتصادي في الصين خلال العقود القليلة الماضية، على صادرات التصنيع واستثمار رأس المال، وسهلت إستراتيجية ترويج الصادرات الناجحة في البلاد اندماج الصين في الاقتصاد العالمي، وعززت التنمية السريعة على الرغم من أن الصين لم تتخل عن إستراتيجية إحلال الواردات خلال هذه الفترة، فإن نهجها «الموجه نحو الخارج» جمع بين إستراتيجيات «التوجه إلى العالمية»، و«الجلب للداخل» لجذب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز المشاريع المشتركة، والتركيز على الصادرات كثيفة العمالة، وتكديس احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي.
لقد ساعد الحجم الهائل للصين على ترسيخ مكانتها كمركز للتصنيع في العالم، وأدى ذلك لتوسيع السوق المحلية، وتعزيز التداول الداخلي والتركيز على الإبداع التكنولوجي لتسهيل التداول المحلي القوي، وستتحول الصين عن نموذجها الذي يركز على التصدير، وتركز على ترويج الواردات، لأن الصين تعد لاعباً عالمياً رئيساً، فمن المهم أن تحافظ على التطوير المستمر للسوق المحلية الضخمة لأن توسيع السوق المحلية، وتعزيز التداول الداخلي، من شأنه أن يمكن الشركات الصينية من التركيز على الإبداع التكنولوجي، لتصدير منتجات أكثر وذات قيمة مضافة عالية.
معظم الصناعات العالمية تعتمد بصورة كبيرة على الموردين في الصين، وتعتمد إفريقيا وأميركا اللاتينية على شراء الصين لسلعهما الأساسية وتمويل التصنيع فيهما.
وقال مسؤول كبير بالحزب الشيوعي إن الصين يجب أن تستهدف مستوى مناسبا لعجز ميزانية السنة المالية 2024، كما تعهد كبار المسؤولين الصينيين بتكثيف عمليات تعديل السياسة النقدية لدعم التعافي الاقتصادي العام 2024.
إن الاقتصاد الصيني يشكل «أهمية كبيرة على مستوى النمو الإقليمي والعالمي وخاصة في آسيا بسبب ديناميكيته، فالاقتصاد الصيني يمتلك قطاعات كبيرة تتمتع بقدرة تنافسية عالية على المستوى العالمي.
أما سياسيا، فتثير قضية تايوان الكثير من القلق وخاصة مع التفكير في التداعيات الاقتصادية لأي عمل عسكري صيني محتمل يستهدف تايوان رغم القمة الأميركية- الصينية الأخيرة بين الرئيس جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ.
لا تزال العلاقات الصينية الأميركية متوترة وتستمر الولايات المتحدة والصين في الجدال حول النفوذ في آسيا وانحسار قوة الولايات المتحدة، وهناك قلق بالغ في الأوساط الغربية إزاء احتمال أن تحل الصين محل الولايات المتحدة، أو على الأقل تنافسها بوصفها القوة العظمى الرائدة في العالم.
وجاءت الحرب الإسرائيلية على غزة والأزمة الأمنية المتطورة في البحر الأحمر لتكشف أن هذا الأمر لا يزال احتمالاً قائماً، في وقت تكتفي فيه بكين بتوجيه انتقادات للرد العسكري الأميركي.
من منظور قادة الصين، هناك منطق إستراتيجي وراء هذا الأمر، يقوم على فكرة أن أزمة البحر الأحمر تصرف انتباه واشنطن بعيداً عن آسيا، ما يتيح لبكين الوقت اللازم لحشد قدراتها غرب المحيط الهادي، مع وعد الرئيس شي «بالمساهمة بالحكمة الصينية في تعزيز السلام والهدوء في الشرق الأوسط».
إن نحو نصف النفط الذي تستورده الصين من الشرق الأوسط، ويوفر البحر الأحمر منفذاً بالغ الأهمية إلى أوروبا، التي تشكل واحدة من كبرى أسواق التصدير أمام الصين.
كما أن السياسة الصينية للاقتصاد تعتمد على ما سمته لفترة طويلة «التحفيز المالي الاستباقي والسياسة النقدية الحكيمة» لدعم النمو الاقتصادي بنحو 5 بالمئة في 2024.
تـنبـئنا علوم الاقتصاد الأساسية أن نمو الإنتاجية أمر شديد الأهمية وهذا ما اعتمدته الصين والمصادر البارزة لنمو الإنتاجية – التكنولوجيا هي الاستثمار في رأس المال البشري، والبحث والتطوير، والتحولات بين الصناعات في مزيج الناتج الوطني.
منذ انعقاد المؤتمر الوطني الـ16 للحزب الشيوعي الصيني في عام 2002، استثمرت الصين 861 مليار يوان في تطوير صناعة التكنولوجيا، لتصبح ثاني أكبر دولة استثمارا في قطاع التكنولوجيا على مستوى العالم، وتمتلك الصين أكبر قوة عاملة مدربة في مجال البحث والتطوير التكنولوجي.
وفي عام 2010، احتلت الصين الترتيب السابع في دليل النشر العلمي «SCI» والرابع في عدد براءات الاختراع المودعة بموجب معاهدة التعاون بشأن البراءات.
ووضعت سلسلة من الابتكارات التكنولوجية الصين في صدارة بعض المجالات العلمية، ودعمت التنمية الاقتصادية على مدى السنوات العشر الماضية.
نجح الصينيون بإنتاج ثقافة ترتكز على التنمية الاقتصادية المستدامة والإبداع التكنولوجي.
وزير وسفير سوري سابق