نشر «الإعلام العسكري» التابع لـ«كتائب القسام» في اليوم الـ125 للحرب، تقريراً احتوى على إحصائية شاملة للمجهود العسكري الذي قامت به هذه الأخيرة خلال المدة سابقة الذكر، والتقرير يقول: إن «كتائب القسام» استطاعت منذ الـ7 من تشرين أول تدمير 1108 آليات لجيش الاحتلال، منها 962 دبابة و55 ناقلة جند و74 جرافة، إضافة إلى تدمير 3 حفارات و14 جيباً عسكرياً، وفيما يخص الخسائر البشرية اكتفى التقرير بالقول: إن «جيش الاحتلال تكبد في غضون تلك المدة خسائر بشرية فادحة بعد مقتل وإصابة المئات من ضباطه وجنوده» من دون أن يتم ذكر تلك الأعداد بشكل دقيق على نحو ما فعل عندما جاء على ذكر العتاد والمعدات، ولربما كان ذلك تحاشياً للاصطدام بشكل مباشر مع الأرقام التي يعلن عنها الجيش الإسرائيلي، حيث تثبت العديد من الفديوهات والمقاطع التي يبثها «الإعلام العسكري» أن ثمة توجه لدى هذا الأخير يقول بضرورة إخفاء جزء من الصورة عن جمهوره لاعتبارات معروفة، وإذا ما ثبت ذلك وتبين خداعه بشكل أكيد، فإنه من المؤكد أن يؤدي ذلك إلى إثارة زوبعة داخلية لن يقل ثورانها عن تلك المثارة الآن حول الإخفاقين الأمني والعسكري تجاه مسألة تحرير الأسرى التي باتت ككرة الثلج المتدحرجة.
أهمية هذا التقرير تتأتى من عاملين اثنين، أولاهما أنه جاء بعد أكثر من شهر على إعلان جيش الاحتلال الانتقال إلى المرحلة الثالثة من العدوان التي تعني التوجه جنوباً ومحاولة العثور في خان يونس على كم «المفقودات» التي جرى البحث عنها في شمال القطاع على مدى شهرين متواصلين من دون جدوى، وثانيهما هو أنه صدر في غضون مفاوضات ماراتونية تتعثر حيناً ثم تنهض من جديد، في مؤشر يؤكد أن «كابينيت الحرب» الإسرائيلية لا يريد، والراجح لا يستطيع، إقفال ذاك الباب أو حتى جعله موارباً، ولذا فإن الفعل، أي صدور التقرير آنف الذكر، يريد القول إن فصائل المقاومة الفلسطينية لا تزال تمسك بالعديد من خيوط الميدان، ولا تزال تتحكم بمجريات المعارك تماماً، كما كانت عليه في اليوم التالي لـ«الطوفان»، هذا إذا لم تزدها شراسة المعارك، صلابة وعزيمة وتماسكاً، كانت كلها بادية للعيان، بل وتثبتها الوقائع أيضاً، ففي الأسبوع الأول من شهر شباط الجاري سيعلن الجيش الإسرائيلي عن سحب الكتيبة 271 التابعة لوحدة الهندسة بعد أن شاركت لثلاثة أسابيع في القتال الدائر في خان يونس، وبعدها مباشرة جرى الإعلان عن سحب كتيبة المدفعية 8140 التي سبق دخولها تلك المعارك أسبوعاً عن نظيرتها السابقة، وما تقوله العلوم العسكرية في هذا السياق هو أن الإعلان عن سحب وحدة من أرض المعركة التي لا تزال رحاها تدور لا يكون نابعاً إلا من أحد معطيين اثنين، الأول أن تكون نسبة التدمير الحاصلة في عتاد تلك الوحدة قد وصل إلى نسبة تتعدى الـ70 بالمئة ما يجعل من مسألة بقائها في الميدان عرضة لفنائها تماماً، والثاني أن تكون تلك الوحدة غير قادرة على إتمام المهام الموكلة إليها لأسباب فنية أو تعبوية أو هي لاقت ظروفاً لا تتناسب ومدى كفاءتها قياساً للتدريبات التي خضعت لها، وكلا الأمرين هنا يرسمان لعلامة سوداء، تبدو أنها ماضية في اجتراح أطياف أشد قتامة من السواد، على جباه مرتزقة جاؤوا من شتى بقاع الأرض لتضمهم «مؤسسة جيش» أراد وسم نفسه بـ«ذاك الذي لا يقهر»!
كان من اللافت، بالتزامن مع نشر التقرير المشار إليه أعلاه، قيام «كتائب المجاهدين»، الفصيل المنشق عن حركة «فتح» والمعلن عن تأسيسها في أعقاب الانتفاضة الثانية العام 2000 كذراع عسكري لـ«حركة المجاهدين الفلسطينيين» ذات الإيديولوجيا الإسلامية، بإصدار بيان أعلنت فيه عن استهداف 7 مستوطنات إسرائيلية في غلاف غزة جنباً إلى جنب 3 مقرات عسكرية شرق مدينة رفح، برشقات صاروخية كانت هي الأكثف، من حيث تزامنها، مما حدث منذ بدء العملية البرية أواخر شهر تشرين أول المنصرم، والفصيل الذي على الرغم من مشاركته في حروب غزة كلها بدءاً من 2008 إلى 2021 ثم وصولاً لـ«طوفان الأقصى»، إلا أن تصدره المشهد مؤخراً هو أمر يشير إلى أن غرفة عمليات المقاومة أرادت القول: إنها لا تزال تمسك بتلابيب المعركة مع دخول الأخيرة شهرها الخامس وأن فعلاً من نوع «توزيع الأدوار» هو الذي يملي على هذا الطرف أو ذاك القيام بهذه المهمة أو تلك كدليل على شدة ذلك الإمساك.
بعد 127 يوماً من القتال لا تزال يد المقاومة العسكرية طولى وعصية على الانكسار، واليد عينها لا تزال كذلك في المفاوضات التي استطاعت من خلالها عكس حقائق الميدان من دون إضاعة للمكاسب التي تحققت، واللافت هنا أنها، أي المقاومة، تبدو مدركة جيداً لحقيقة أن حجم الآلام المتنامية لا يجب أن تقود إلى تنازلات من شأنها أن تكسر التجربة التي سيكون خطأ فادحاً سلوك الطرقات المؤدية لانكسارها، لكن ثمة شيء لا بد من قوله، وهو بالتأكيد يمثل معضلة أمام «طوفان الأقصى»، هو أن هذه الأخيرة لم تستطع توحيد الشعب الفلسطيني بكل قواه وتياراته وأحزابه ومنظماته، والفعل فيما لو تحقق كان كفيلاً بتحويل آلام غزة إلى ملاحم إنسانية شبيهة بتلك التي أفضت إلى مخارج أزمات كبرى استطاعت فيها أنفاس الإنسانية الانتصار على نوازع البربرية.
كاتب سوري