منذ أن انفضت جولة «أستانا» الحادية والعشرون التي استضافتها العاصمة الكازخستانية شهر كانون ثاني المنصرم سرت أحاديث عدة عن إمكان استئناف «مسار جنيف» وانعقاد جولة جديدة من اجتماعات «اللجنة الدستورية» المتوقفة عند الجولة الثامنة التي انعقدت شهر حزيران من العام 2022، وفي حينها بدا أن المسار برمته قد دخل مرحلة الاستقطاب الروسي– الغربي الماضي آنذاك على خلفية إطلاق موسكو لـ«عمليتها العسكرية الخاصة» في أوكرانيا قبل نحو ثلاثة أشهر من هذا التاريخ الأخير.
كانت أبرز الإشارات التي تحمل إمكان استعادة ذلك المسار لنشاطه قد تمثلت في تصريح المبعوث الروسي الخاص لحل الأزمة السورية، الكسندر لافرنتييف، الذي قال فيه «العمل جار على إمكانية استئناف المسار الأممي لحل الأزمة السورية شهر آذار المقبل»، لكنه أضاف «بعد التوافق على مكان جديد لعقد اللقاءات».
من الراجح هنا أن المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية، غير بيدرسون، كان قد سعى نحو انعقاد جولة «أستانا» الـ21 على الرغم من «عدم وجود تحضيرات كافية لها» وفقاً لتصريحات رسمية روسية أضافت أن «موسكو لا تريد أن تكون حجر عثرة أمام الجهود التي يبذلها المبعوث بيدرسون»، نقول من الراجح أن هذا الأخير كان مدركاً لحقيقة أن جولة أستانا الأخيرة لن تحقق الكثير وفقاً لمعطيات تراكمت لديه، لكنه أراد من خلال الفعل البحث عن اختراق ما يحقق له عودة للمسار الأممي من جديد، ومن الراجح أيضاً أن بيدرسون كان مدركاً جيداً للتوتر الحاصل في العلاقة الروسية التركية على خلفية تراكمات عديدة لربما يمكن اختصارها بالحالة «الزئبقية» التي تتعاطى بها أنقرة مع كل الملفات المشتركة بدءاً من أوكرانيا ووصولاً إلى سورية وما بينهما ليبيا، الأمر الذي كان يراه «سلبياً» في «أستانا» لكن «إيجابياً» في «جنيف»، إذ لطالما كانت أنقرة ترى في الأول تثقيلاً لدورها في التسوية السياسية للأزمة السورية، وترى في الثاني، الخاضع لتوازنات دولية شديدة التعقيد، تهميشاً لذلك الدور وبعثرة لرزمة «الأوراق» السورية التي تملكها.
شكل الإعلان عن إلغاء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المقررة لتركيا يوم 12 شباط الجاري، رأس جبل الجليد فحسب لتلك التراكمات بعد أن كانت «السفوح» قد اتسعت على مدى الأشهر القليلة الماضية وإن بشكل بدا أشبه بـ«نقاط سود» لا يمكن لها أن تغير من طبيعة العلاقة القائمة بين البلدين والتي تطبعها حقائق «الجيوبولتيك» بوسومات يصعب معها لحظ اضطرابات كبرى فيها، لكن «النقاط» راحت تتراكم ثم راح أثرها التراكمي يخرج للسطح بشكل ينبئ باحتمالات حدوث ذلك اللحظ الذي وإن حافظ على «انضباطه» لكنه أظهر استعداداً للخروج عنه، والشاهد هو أن الحكومة التركية كانت قد قامت، منذ مطلع شهر شباط الجاري، بإغلاق حسابات للعديد من الشركات الروسية العاملة على الأراضي التركية، كما شددت قيودها على استخدام البنوك التركية من قبل مستثمرين روس بدعوى تزايد الضغوط الأميركية عليها، وحجم «الألم» هنا يتضح إذا ما وضعنا بالحسبان أن موسكو كانت تستند على أنقرة بشكل أساسي في محاولاتها الرامية للالتفاف على العقوبات الأميركية، والغربية عموماً، المفروضة عليها منذ بدء الصراع الأوكراني.
هنا من شبه المؤكد أن موسكو قرأت سلوك «الزكزاك» التركي، الذي استطاع نظام أنقرة من خلاله تحقيق مكاسب عدة على امتداد البؤر الإقليمية الساخنة، على أنه انزياح تركي جديد نحو الغرب بعدما كان الظن الروسي أن «انزياح فيلينوس» الأخير، الذي يقصد به الموقف التركي خلال قمة «الناتو» الأخيرة التي انعقدت بالعاصمة الليتوانية منتصف شهر تموز الماضي والذي شكل في طبيعته منعطفاً تركياً تجاه الصراع الأوكراني للمرة الأولى، قد جرى احتواءه، ولربما قرأت موسكو الانزياح الجديد على أنه «إغراء» تركي لواشنطن يمكن أن يذهب نحو أحد مرميين، الأول أن تغض واشنطن النظر تجاه عملية عسكرية جديدة ما انفك مسؤولو النظام التركي يهددون بها منذ أشهر لكنها ستكون هذه المرة مختلفة عن الأربع اللواتي سبقنها حيث تطمح أنقرة هذه المرة تفكيك ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» مرة واحدة وإلى الأبد، أما المرمى الثاني فقد يكون محاولة لدفع العربة الأميركية المتثاقلة، أو هي خجلى، بغرض تحفيزها كي تغذ خطاها في الانسحاب من الشرق السوري مما تبين ملامحه بوضوح وإن كان ذاك كما تواتر الموج الذي يعلو حيناً ثم ينخفض حيناً آخر.
كنتيجة، إذا ظلت المواقف التركية على حالها ولم تشهد «زكزكة» عن الخط الذي تسير فيه راهناً، فقد نشهد جولة جديدة من اجتماعات «اللجنة الدستورية» ستكون بدفع روسي «تناكفي» مع نظيره التركي.
كاتب سوري