على الرغم من أن الجبهة اللبنانية مع فلسطين المحتلة لم تكن هادئة منذ اليوم التالي لبدء عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها حركة حماس فجر السابع من تشرين أول الماضي، لكن الفعل، أي مغادرة الهدوء، هنا كان محكوماً بقواعد الاشتباك التي أرساها القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن شهر آب 2006، مما كان يوحي بأن الطرفين، أي حزب اللـه وجيش الاحتلال، غير راغبين في خرق تلك القواعد لاعتبارات خاصة بكل منهما، لكن الأيام القليلة الماضية شهدت تطورات لافتة تشي بإمكان خروج الأمر عن السيطرة حتى ولو ظلت «الرغبة» موجودة لدى كلا الطرفين خصوصاً أن تطورات الحرب في غزة كانت قد دخلت منعطفاً قد يكون هو الأخطر مما يلوح في إمكان اقتحام الجيش الإسرائيلي لرفح بكل ما يمثله ذلك الفعل من مخاطر أقلها دخول التهديد مرحلة التدحرج السريع التي بدا مواظباً على رتمها البطيء منذ بدء الحرب، والفعل فيما لو حصل ستصبح المنطقة برمتها معه كما عجينة وضعت على صفيح لا تعود صفة الساخن كافية لتوصيفه.
يوم الـ2 من كانون الثاني الماضي قامت إسرائيل بخرق وازن لقواعد الاشتباك مع حزب اللـه عندما قامت باغتيال نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري، والخرق يزداد أثره عندما يحدث الفعل في الضاحية الجنوبية ببيروت التي تمثل المعقل الأهم للحزب ولذاك اعتبار معنوي كبير من الصعب تجاهله، وفي يوم الـ12 من شباط الجاري استهدفت مسيرة إسرائيلية سيارة كانت تقل قائداً محلياً في حزب اللـه ببنت جبيل إلا أن الأخير نجا من العملية التي راكمت إصراراً إسرائيلياً يريد القول إن تهديدات القادة الإسرائيليين بتوسعة الحرب شمالاً، ولربما على جبهات أخرى، يمكن أن تصبح قيد التنفيذ إذا ما ظل حزب اللـه مصراً على استهداف جبهة الشمال، الأمر الذي رد عليه الحزب وعلى لسان أمينه العام حسن نصر الله، يوم الـ13 من شباط بالقول إن «إطلاق النار في جنوب لبنان لن يتوقف إلا بانتهاء العدوان على غزة»، قبيل أن يضيف رداً على تهديدات وزير الحرب الإسرائيلي بتوسيع العمليات العسكرية ضد لبنان قائلاً: إن على الأخير أن «يدرك إذا شن حرباً على لبنان، فإن عليه تهيئة الملاجئ لمليوني مهجر إسرائيلي من الشمال لا مئة ألف فقط»، وهنا كان لا بد من «القفز» خطوة على هذا الطريق الذي اختطه نصر اللـه للقول: إن «الحزب» لا يخشى التهديدات، وإن إسرائيل إذا ما قررت نقل المواجهة إلى مربعات جديدة فإن «الحزب» جاهز لسيناريوهات كهذه هذا إن لم يكن جاهزاً لتطوير هذه الأخيرة نحو مطارح قد تكون أبعد مدى.
يوم الثلاثاء الـ24 من شباط أعلنت مصادر إسرائيلية عن مقتل مجندة بالجيش الإسرائيلي وإصابة 8 عسكريين، وأضافت، تلك المصادر: إن بعضهم في حالة حرجة جراء قصف صاروخي نفذه حزب الله، واستهدف من خلاله قاعدة جوية في ميرون وقاعدة عسكرية في صفد، والفعل في توقيته، وفي الأسلحة المستخدمة فيه، ثم في المدى الذي ذهب إليه، يحمل معه جملة رسائل كانت كلماتها مقروءة بوضوح وهي لا تحتاج إلى كثير عناء لفهمها.
يستحضر التوقيت أمرين اثنين، الأول هو المقترح الذي تقدمت به باريس لوقف التصعيد على جبهة الجنوب اللبناني وفي هذا السياق أشار نصر اللـه في حديثه آنف الذكر بالقول: إن «الوفود التي أتت إلى لبنان خلال الأشهر الماضية هدفها أمن إسرائيل، وإعادة 100 ألف مستوطن إلى الشمال»، وهذا يعني أن المعادلة التي يحملها «الوسطاء» لا تستقيم، وبمعنى آخر فإن تلك الوساطات من الصعب أن تفلح طالما بقيت معالم تلك المعادلة على حالها، والثاني يتمثل في إمكان انتقال الحرب إلى رفح التي باتت تحوي أكثر من مليون نازح ناهيك عن ربع هذا العدد الذي يمثله ساكنوها قبلاً، والفعل، أي انتقال الحرب إلى رفح، سوف يكون من شأنه وصول التوتر إلى حدود قد تجد أطراف الصراع نفسها فيها ذاهبة إلى مطارح لم تكن تريدها، أو أن ذهابها ذاك لم يكن داخلاً في حساباتها من قبل، وفي الأسلحة، كان استخدام أنواع دقيقة منها رسالة تريد القول إن الذهاب إلى المربع اللبناني فعل من شأنه تعريض البنى الإسرائيلية لأنواع من التدمير تختلف في طبيعتها عما جرى في غضون الأشهر الأربعة الفائتة، أما المدى الذي ذهب إليه الاستهداف، وهو يبعد نحو 15 كم عن الحدود اللبنانية، فيريد القول إن تل أبيب إذا ما أرادت تخطي قواعد اللعبة المعمول بها فلن يكون هناك من خيار أمام حزب اللـه سوى القيام بفعل مشابه.
على الرغم مما سبق، وكله يشير إلى احتمالات أن تشهد جبهة الجنوب اللبناني، ولربما الجبهة اللبنانية برمتها، تصعيداً قد لا يكون محسوباً مسبقاً لكلا طرفي الصراع ولا هما ساعيين إليه، إلا أن الراجح أن تبقى جبهة الصراع آنفة الذكر «منضبطة» وفق القواعد التي شهدتها منذ بدء الحرب في غزة ولا ضير كبير من تجاوز هنا أو تمدد من هناك، الأمر الذي تفرضه معطيات عدة حاكمة لقرار الطرفين وفي الذروة منها أن تل أبيب ستكون في وضع آخر إذا ما اندلعت جبهة أخرى ستكون «متعبة» أكثر، لكن الوضع قد يصبح مختلفاً، فقط، إذا ما «سكنت» الجبهة الأولى، أو جرى التوصل فيها إلى وقف دائم لإطلاق النار، عندها قد تصبح المعطيات مختلفة.
كاتب سوري