فرادة العمل الأدبي المرتكز على توثيق التراث والتاريخ في مفاصله … «سهام ترجمان»: معلومات لأبناء الوطن ولكل مغترب عن الأزقة والحارات القديمة
| مايا حمادة
كتاباتها تتوهج باستمرار من دون أن ترمد، وتشكل إضافة معرفية وفكرية لمجتمع الثقافة العربي والعالمي، فبقيت الأديبة «سهام ترجمان» حاضرة بروحها ووجدانها لتجعل اللغة تتسامى لتبلغ حدوداً استثنائية من الجمال والبهاء، ولتتحدث عن صناعة التاريخ التراثي الدمشقي بإبداع فخاطبت الناس بلغتهم وكما يريدون ويتمنون أن تكون، فكان سردها عن بساطة الأشياء المعقدة، ولأنها من الكاتبات القلائل التي تمكنت من تحريك مشاعر الناس وذاكرتهم على المحبة وغرس القيم الأخلاقية والغوص في جوهرها، تمكنت من النجاح في الوصول لجميع فئات الناس وبجميع مستوياتهم.
أحبت التراث ودافعت عنه بصورة جمالية
تحدثت الكاتبة والإعلامية «سهام ترجمان» عن مكانة المرأة الاجتماعية والافتخار بجمالها وثقافتها في مناسبات عدة، ولفتت النظر إلى أن المرأة لقبت بألقاب عديدة لتعكس هذه المكانة وتترجمها إلى الحالة الاجتماعية التي كانت تعيشها سابقاً منها (ست الشام وست الكل) من باب الفخر والتزكية، كما بينت أهمية المرأة الدمشقية والأم ودورها في جوانب الحياة كافة، ومنها الجانب العلمي فكان بيتها الميدان الأول وكانت تقصد البلدان البعيدة ترحل لطلب العلم واكتساب المعرفة بما في ذلك عنايتها بالشعر ونظمه.
وتحدثت في كتابها «يا مال الشام» عن أهل دمشق الذين تمتعوا منذ القدم بخصائص اشتهروا بها وعرفوا بها وأثر عنهم لطف المعشر ورحابة الصدر والاستغناء والبر، وكانت لمدينتهم طبيعة خاصة ومتفردة تمثلت في علاقات الناس مع بعضهم بعضاً وفهم طباعهم وسلوكياتهم الحميدة وتطلعاتهم المنفتحة على الحياة، وأوضحت أن الدمشقيين طبعوا على التعاضد والمحبة والمساندة والإيثار، وبينت أن الدمشقي هو صاحب اليد الممتدة بالخير في كل زمان ومكان، وذكرت فيه الكثير من المناسبات والاحتفاليات التي تعد فرصة لتوطيد أواصر المحبة والعلاقات الأسرية والاجتماعية سواء بتبادل التهاني والزيارات بين أحياء المدينة.
وتناولت في الكتاب نفسه أهمية سجل التراث الشعبي «كركوز وعيواظ» في دمشق الحافل بالصور الجميلة المتميزة بالحديث عن العادات والتقاليد التي جسدت روح المدينة وحركت نبض الحياة المشرقة التي عاشها الدمشقيون وعبروا بها عن طبيعة النفوس الخيرة أفضل تعبير، وكان للأمثال الشعبية حيزاً مهماً في الكتاب المتمثل بالدور المهم في تشكيل الوعي وسلوك الناس، وبالتأكيد على التجانس الاجتماعي والوحدة الثقافية لهم على أساس التراث، حيث كانت تزخر الحياة سابقاً بعدد هائل من الأمثال الشعبية التي لا تزال راسخة إلى اليوم في الذهنية الدمشقية، وتطرقت في الحديث عن الشام بمفردات جذابة وممتعة فيها رونق خاص مضاف إليه أسلوبها العلمي الدقيق والموثق من خلال وصف بيوتات دمشق وتاريخها القديم ضمن دراسة رائدة وقيمة متكامل عن المجتمع الدمشقي الثري
خير جليس في الغربة
يعد كتاب «يامال الشام» تحديداً بمنزلة معلومات تاريخية لأبناء الوطن جميعهم ومرجع لكل إنسان مغترب عن بلده ويشتاق بين الحين والآخر أن يعود به الزمن إلى تلك الأزقة والحارات القديمة التي تستذكرها حروف وكلمات الكتاب في مخيلته وتحاكي قلبه ووجدانه فينسى حدود الزمان وكأنه يعيش أيام ألف ليلة وليلة التي مازالت حية ومرتبة ومنسقة ليست بلغة الكاتبة «سهام ترجمان» بل بلغة وخطاب القراء، ووثيقة مهمة على ما قدمه السابقون وحافزاً للتعرف والاطلاع على تراث الآباء والأجداد وعلى ما قدموه من خير وفضل، فبينت أنهم القدوة الصالحة الناجحة ومن أهم أسباب النجاح في الحياة، الكتاب يشجع ويؤكد التمسك بهوية الإنسان والعودة إلى جذوره وأصله بتنوعه وصورة الجمالية المزينة بأبيات الشعر لمختلف الشعراء المعروفين الذين تغنوا بدمشق الفيحاء ماعدا القصص المكتوبة باللغة العامية الجذابة والأغاني الشامية القديمة المذكورة فيه مثل (ياستي عرجا عرجا وعلبابا علبابا عدا أغاني العيد التي نستذكرها ونرددها حتى الآن ومنها ما يتعلق بطقوس شهر رمضان المبارك).
وتميز كتابها بالعناوين الدمشقية وكأنها مسموعة بالأذن عند قراءتها مثل (ياعيني على قصر العظم، أكيدنيا ياحلوة، يرحم أهل أول).
عدا تناثر الصور الفوتوغرافية داخل صفحات الكتاب الدالة على مدى محبي الكاتبة للتصوير الفوتوغرافي ليعيش القارئ حالة المحبة الكبيرة والجمال، التي تسكن قلب وذاكرة الكاتبة.
ريادة بالبحث عزيزة النظير
ولأن «سهام ترجمان» خريجة فلسفة جامعة دمشق عام 1955، ركزت في عملها على قيمة الإنسان بقدسيته وعنفوانه ووعيه وكسرت حواجز كل ما هو بعيد عن الوعي بالوطن وقضاياه وتجاوزت العناوين الطائفية بذكائها الأدبي من خلال إلقاء الضوء على مهام المرأة في التوعية والتثقيف وانفتاحها على الأدب والاهتمام بتعزيز الشعور الوطني والقومي وفق رؤيتها الخاصة التي جسدتها من خلال كتاب «رسائل الأميرة زينب الحسنية إلى الرائدة الشامية ماري العجمي» حيث ركزت فيه على مدى مواكبة الكاتبتين (زينب وماري) السابقات لعصرهما لتفاصيل كثيرة تعنى بالأمور الإصلاحية والتنويرية الروحية، فكانت الكاتبة غيورة على مدينتها من الأشكال العمرانية الجديدة والهجوم الحداثي المتتابع، وهي التي تشكلت في مخيلتها دمشق القديمة التي عشقتها بعفوية خالصة، فعملت كرائدة وقائدة في حرب المحافظة على التراث العمراني العتيق لمدينتها، وبالتوازي مع كل ما ذكر نجحت الصحافية والأديبة «ترجمان» في السعي لمناقشة نتاجات الإنسان الثقافية والاجتماعية والعمرانية النقية بأبهى حللها، مبتعدة عن معالم التحديث غير المنظم والتطور العشوائي، فبحثت وبذلت كل جهد من خلال كتابها «آه يا أنا» في توثيق التاريخ بروح أدبية ريادية مع اكتشاف كل ما هو جديد في الدراسات العلمية والأدبية داخل المكتبات، لتصبح السباقة في محاكمة النص حول المقومات الإنسانية في الكرامة والإرادة والحب في ظل الحداثة والحياة العصرية، لذلك دعت للعودة إلى الأخلاق كضمان وحيد للجسد الذي يعتبر الكائن الحي والمنبع الأساسي للفكر والحركة والوعي، ليبقى الجدل عن موضوع الذات الإنسانية وتفاعلها مع الطبيعة ومناهجها هو الأهم عندها ولتكون الأخلاق هي من تحمي حاضر ومستقبل الطبيعة والإنسان وعليه تحمّل الإنسان كل المسؤولية تجاهها.