خرافات توراتية تفسّر بدء الخلق ونسردها … يتوزع الخلق لوناً ومكاناً وفق روايات خرافية تجعل اليهود شعب الله المختار!
| إسماعيل مروة
تروي كتب التاريخ حكايات عن بدء الخلق، وتحاول أن توجد تفسيرات لما جاء في الكتب المقدسة من نصوص، وهذه التفسيرات تخضع لرؤية قارئها ومفسرها، وغالباً ما تتحول هذه الحكايات إلى ما يطلق عليه (الإسرائيليات) والتي تتلخص بتفسير النصوص المقدسة، وبدء الخلق، وحكايات التاريخ الأسطوري من مبدأ توراتي، وأغلب المفسرين والمؤرخين في تراثنا العربي من المطّعنين القارئين الذين هضموا الثقافة والفكر السابق، ثم قاموا بصياغته بأساليبهم الخاصة، وكانت المشكلة الكبرى تتمثل في محاولات الكثيرين منهم تفسير ما لا يحتاج إلى تفسير، بل جنحوا إلى تفسير النصوص والحوادث، وصنعوا سردية غريبة لها، وليست مطلوبة منهم، فهم لا يمتلكون المعاصرة، ولا يمتلكون الأدوات البحثية التي تجعلهم قادرين على الجزم بالأمور كما جزموا.
الحكايات وما يدور حولها
يذكر النويري في (نهاية الأرب في فنون الأدب) حكاية موت آدم، وتلقي حواء لخبر وفاته، ويدخل في تفاصيل ليست مطلوبة، وليس من شأننا معرفتها بحال من الأحوال، وقد ذكر هذه القصة كثيرون قبله نقلها عنهم، وذكرها بعده كثيرون أخذوها عنه، وربما طرب هؤلاء لما في القصة وتفسيرها من سردية حكائية تبحث عن شيء لا نحتاج إلى تفسيره، وربما اندفع هؤلاء العلماء لإيجاد مسوغات العادات الاجتماعية التي عاصروها والتي لا نزال نعاصر الكثير منها.
«ولما توفي آدم، عليه السلام لم تعلم حواء بموته حتى سمعت بكاء الوحش والسباع والطير، ورأت الشمس منكسفة، فقامت من قبتها فزعة أن يكون حلّ بشيث ما حل بهابيل، وصارت إلى قبة آدم فلم تره، فصاحت صيحة عظيمة، فأقبل إليها شيث وعزاها وأمرها بالصبر، فلم تصبر دون أن صرخت ولطمت وجهها ودقت صدرها، فأورثت ذلك بناتها إلى يوم القيامة، ثم لزمت قبره أربعين يوماً لا تطعم، ثم مرضت مرضاً شديداً ودام بها حتى بكت الملائكة رحمة لها، ثم قبضت، رحمة الله عليها، فغسلها بناتها، وكفنت من أكفان الجنة، ودفنت إلى جنب آدم، عليهما السلام، ورأسها إلى رأسه، ورجلاها عند رجليه، وقيل كانت وفاتها بعد مضي سنة من وفاة آدم».
إذا ما نظرنا إلى الحكاية التي أوردها المؤرخون، ونصها مأخوذ عن النويري في كتابه المذكور، يمكننا أن نسأل: ما الإضافة المعرفية التي تقدمها؟ ما الفائدة العقيدية التي تقدمها؟ أي تفسير كنا نحتاجه من مثل هذه القراءة؟
الأمر باختصار شديد، آدم خرج عن التوجيه وعوقب، وصار من أهل الدنيا، ولابد من رحيله عن الحياة بشكل من الأشكال، بعد أن ترك في الأرض من الأبناء والبنات من يعمرها، وهو من أبوته للبشرية غادر بشكل غير مدرك من حواء، فماذا تضيف حكاية استقبال حواء لموته سوى تسويغ فلسفة البكاء واللطم، ومحاولة إسباغ الشرعية بقرار إلهي بأنه كتب على المرأة أن تستقبل وفاة الأعزاء والزوج بهذه الطريقة؟
إضافة إلى إيراد علماء الأمة هذا القول من دون تعقيب، وهم الذين يرددون عند سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: الشمس والقمر آيتان لا تكسفان أو تخسفان لموت أحد من البشر.
وقد جاء في تتمة الخبر: «قال، ولمّا مات آدم، عليه السلام، أسند وصيته إلى ابنه شيث، وكان مما أوصاه به التمسك بالعروة الوثقى، وشهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بمحمد رسول الله، وقال له: يا بني إني رأيت اسمه مكتوباً على سرادق العرش وأبواب الجنان وأطباق السموات وأوراق شجرة طوبى فهذه وصيتي إليك».
أترك التعليق على المصداقية والتوثيق لكل قارئ، وحسب قناعاته التي يحملها، مع إمكانية التشكيك بروايات لم ترد في كتب مقدسة لحياة تعود إلى بداية الخلق.
إسرائيليات تقدم نفسها
مع أن الباحثين وقفوا منذ القديم وإلى زماننا الحاضر مع الإسرائيليات التي تعج بها كتب التاريخ والتفسير، لكننا ما نزال إلى يومنا هذا نرددها، ونفسر ما نريد حسب قراءات التوراة! وإن كانت بحاجة إلى استخلاص في كثير من المفاصل، خاصة في قصة الخلق، وقصص الأنبياء، إلا أنها واضحة وبارزة في كثير من الأخبار التي لا لبس فيها، والتي لا تكتفي بإيراد قصص وتفسيرها حسب الرؤية الإسرائيلية (بنو إسرائيل) بل هناك أخبار تشير إلى نفسها، وروايتها تكون من الأحبار بشكل مباشر، فإما أن تذكر رواية عن أحد الأحبار اليهود، أو أن يتم اللجوء إلى هؤلاء الأحبار للاستعانة بعلمهم، ويتم وصفهم بأنهم الجامعون لعلوم الأولين والآخرين، ويكفي أن أورد خبراً ذكره النويري يتعلق بـ(إرم ذات العماد) والأمر ليس نقلاً، وإنما يسرد النويري أنه كان مع الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية كما يورد الخبر هو من يطلق الاستعانة بكبير الأحبار اليهود ليأخذ رأيه بما يسمع، والحكاية فيها ما فيها من التجاوزات، ولا يذكر الخبر أي اعتراض أو تعليق من الخليفة، أو من العلماء الذين كانوا حاضرين، والأدهى أن المؤرخين ينقلون الخبر من دون أي إخضاع للنقد والتمحيص وكأن هذا الحبر اليهودي هو الذي يروي ليؤكد مصداقية ما جاء في القرآن!!
بعد الخبر الطويل «قال معاوية: يا أبا إسحاق، لقد فضلك الله على غيرك من العلماء، ولقد أعطيت علم الأولين، والآخرين ما لم يعطه أحد، فقال: والذي نفس كعب بيده، ما خلق الله تعالى في الأرض شيئاً إلا وقد فسّره في التوراة لعبده موسى تفسيراً، وإن هذا القرآن أشدّ وعيداً (وكفى بالله شهيداً) والله الهادي للصواب».
إن قراءة الخبر بتمعن، هذا إن كان الخبر صحيحاً- يظهر بجلاء ووضوح دخول الإسرائيليات فيه، ونواقص صحته داخله، تتمثل في:
– الحكاية الخرافية التي لا يمكن أن تحدث في الخيال.
– مجلس معاوية بن أبي سفيان وهو من هو، في الحدّة والذكاء والعلم.
– كعب الأحبار الذي يعرف علم الأول والآخر في الوقت نفسه، وهذا ما لم يعط لنبي.
– استشهاد كعب الأحبار بالتوراة في كلامه، فهو يستقي معارفه وتفاسيره من التوراة وسياقها الحكائي.
– إشارات كعب الأحبار إلى القرآن الكريم، فيما لو كان الخبر صحيحاً، لإرضاء الموجودين ومنهم معاوية.
وهكذا تسللت الحكايات والقراءات والتفاسير التوراتية إلى حكايات الخلق والعقيدة.
نوح وبنوه
«ولما استقر الأمر قال نوح لبنيه: إني أحب أن أنام، فإنني لم أتهنأ بالنوم منذ ركبت الفلك، فوضع رأسه في حجر ابنه حام، فهبت الريح فكشفت سوءته، فضحك حام، وغطاه سام، فانتبه فقال: ما هذا الضحك؟ فأخبره سام، فغضب، وقال لحام: أتضحك من سوءة أبيك؟ غيّر الله خلقتك وسوّد وجهك فاسودّ وجهه لوقته، وقال لسام، سترت عورة أبيك، ستر الله عليك في هذه الدنيا، وغفر لك في الآخرة، وجعل من نسلك الأنبياء والأشراف، وجعل من نسل حام الإماء والعبيد، وجعل من نسل يافث الجبابرة والأكاسرة والملوك العاتية».
أما هذا الخبر عن نوح وبنيه بعد انتهاء قصة الفلك والطوفان، فهو منقول بحرفيته، وفيه ما فيه، أيضاً إن صحّ هذا الخبر، وفيه مشكلات جمّة صاغه صانعه الأول عن بدء الخلق ليقدم مسوغات لما هو في الحياة من انتشار للناس وعمران للبلدان، واختلاف في الألوان، لكن صياغته أو حكايته تؤكد مفهوم الشعوب المختارة، وتضع مبدأ التفضيل بين البشر.
تعب نوح فاستلقى فكشفت عورته، ضحك أحد أبنائه وستره واحد آخر، هذا الأمر كان كافياً عند نوح ليغضب على أحدهم ويدعو عليه، ويرضى عن الآخر ويبارك نسله..!
ولنلاحظ التقسيم بين الأبناء بناء على دعوة الأب نوح:
– فقال لسام: جعل من نسلك الأنبياء والأشراف.
– وجعل لحام: الإماء والعبيد.
– وجعل ليافث: الجبابرة والأكاسرة والملوك.
والخبر في تتمته التي لم أذكرها خشية الإطالة يهاجر أبناء حام، فيكون منهم السودان ومنطقة إفريقية، ويتوزع الإخوة وأبناؤهم في الأرض حسب التوزيع الذي أراده نوح بعد أن دعا على حام أن يسوّد وجهه، ودعا لحام بالرضا في الدنيا والآخرة.
في بنية نص الخبر الكثير مما يقال، فهو مصوغ بأسلوب متأخر فيه نكهة إسلامية، وفي تفاصيله أخذ الكثير من الإسرائيليات فهذه التفاصيل لم ترد في النص الإسلامي المقدس.. فبعد أن (استوت على الجودي) تفاصيل جاء بها أصحاب الحكايات وهم مثل كعب الأحبار الذي ورد في خبر معاوية.
حكايات صادمة: أظن أن أغلب الناس لم يطلعوا على هذه التفاصيل، فحتى الذين تخصصوا من النادر أن يقفوا على هذه التفاصيل، وعندما قرأت وبدأت الإبحار في هذه الكتب والأخبار وجدت الحكايات التي تصدم القارئ، وتبتعد كل البعد عن المنطق الإنساني، وعن العدل الرباني، فما بالنا عندما يمنح أحد الأنبياء بدعاء منه لله وتوسّل ابنه خمسين عاماً من عمره، وحين يحين أجله يجادل ملك الموت بأن عمره المكتوب لم ينته بعد، فيقول له: لقد وهبت بدعائك لابنك خمسين سنة، فيعترض ويجادل في أنه لا يريد أن يمنح ولده، ويريد أن يحياها هو!
مما لاشك فيه أن هذه المماحكات في الحكايات بين الأنبياء والعبيد والخالق والملائكة الموكلين هي محض خيال وحكايات لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وجاد بها قصاص الحكايات التوراتية.
بين العقيدة والحكاية
إن هذه الأخبار التي تعج بها الكتب التاريخية، وكتب التفسير أحياناً ليست في شيء، ولا علاقة لها بالعقائد، وسواء عرفها الإنسان أم لم يعرفها لا تقدم ولا تؤخر، بل إن معرفتها بهذه الطريقة الحكائية الخيالية تسيء إلى العقيدة أيّما إساءة وتشوه مفاهيم العقيدة والربوبية والنبوة، وهذه الروايات على كثرتها أسهمت إسهاماً كبيراً في تشويه الإيمان الفطري الذي تتمتع به العجائز، ويحاول أن يوجد لكل أمر حكاية مهما كانت هذه الحكاية تحمل من إساءات، كثير من المؤرخين والكتّاب يريدون منك أن تؤمن هكذا بكل ما ورد عن السلف.