ماذا يعني الانسحاب العسكري الأوكراني الكيفي الفوضوي المفاجئ من أفدييفكا التالي لسقوط باخموت؟! سؤالُ يحمل في طياته الكثير من الاستفهام والمسوغات المنطقية، ويستدعي قراءةً موضوعية ومتأنية لما أحاط ويحيط بالمسألة الأوكرانية برمتها من تعقيدات وخيبات وانكسارات، على ضوء الموقف الأوكراني الميداني المربك والمستند أولاً وأخيراً إلى مستوى الدعم الغربي المرهون بالرغبة الأميركية من جهة، وقدرات الدعم الأوروبي المحدودة من جهة ثانية، مع الأخذ بالحسبان مستوى القدرات العسكرية الروسية الهائلة والمتطورة، الكفيلة باستنزاف ذاك الدعم الغربي الذي سيبقى محدوداً في جميع الأحوال، قياساً بالترسانة العسكرية الروسية المتطورة متعددة الصنوف والمهام الاستراتيجية.
جملة من المعطيات الروسية والأوكرانية والغربية التي أفرزها الميدان، تستدعي الإضاءة عليها نظراً لأدوارها المؤثرة إيجاباً لدى الروس وسلباً لدى الطرف الآخر في تحديد مستقبل ماهية النظام الأوكراني وتركيبته الجديدة بعد انتهاء فصول العملية العسكرية الروسية الخاصة في منطقة الدونباس ومخرجاتها.
في مقدمة معطيات الجانب الروسي، يأتي استناد جيش روسيا الاتحادية على سلاحه المتطور والمُنتَج وطنياً في مجمع الصناعة العسكرية الخاص به، للمضي قدماً في استنزاف أوكرانيا، وتكتيكه الميداني المبني على مخزون هائل من الخبرات العسكرية المتراكمة، وصلابة تلاحم الشعب الروسي والتفاف أغلبيته الوازنة حول قيادته العليا ووقوفه وراء قواته المسلحة بقوة فولاذية مقتنعاً بأنه بات في خضم معركة وجودية تستدعي تحقيق الانتصار المحتم، انطلاقاً من ثقته بقدرة قيادته على تحقيق أهداف العملية العسكرية الخاصة، ولاسيما القضاء على نازية النظام الأوكراني والحيلولة من دون عسكرته ومن دون أطلسته، هذا فضلاً عن مشاعر التعاطف والتأييد السياسي من قبل العديد من بلدان العالم وشعوبها في قارات آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية والبعض الأوروبي، للعملية العسكرية الروسية.
في المقابل تبدو معطيات الجانب الأوكراني هزيلة الفاعلية الميدانية في مخرجاتها العسكرية والسياسية المتمثلة بالحالة المزرية التي تعيشها قيادة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي المحبطة المربكة المنهزمة الحائرة الأسيرة، لدى مشغلها الأميركي وداعمها الغربي، إلى درجة استجداء المزيد من الدعم المالي والعسكري الأميركي والأوروبي، والذهاب نحو خفض سن الالتحاق بالجيش من 27 إلى 25 عاماً، واستقدام المزيد من المرتزقة الأجانب وعديمي الجنسية وخاصةً تلك القادمة من منطقة القوقاز والكيان الصهيوني، لدعم الجيش الأوكراني في مواجهة القوات الروسية، فيما أكد استطلاع آراء 1202 شخص بعمر 18 عاماً فما فوق ووفقاً لدراسة حديثة، أن اثنين وسبعين بالمئة من الأوكرانيين يؤيدون التوصل إلى تسوية دبلوماسية مع موسكو والتسليم بالشروط الروسية.
إن ما يؤكد تدحرج قطع الدومينو العسكرية الأوكرانية، ارتباك زيلينسكي وزمرته النازية في ميادين الاشتباك العسكري وإقدامه على إقالة القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني من منصبه واستبداله بألكسندر سيرسكي الذي سارع فور توليه مهامه لاتخاذ قرار بالانسحاب من أفدييفكا بعد يوم واحد من هروب قواته منها بصورة عشوائية.
في السياق، تمثلت المعطيات الأميركية بحراك داخل الكونغرس والحزبين الجمهوري والديمقراطي والبنتاغون و«التيار الترامبي» المعارض للإدارة الأميركية، تناول مسألة الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا وجدوى نتائج هذا الدعم على الأرض الأوكرانية، والذهاب باتجاه تحميل الغرب الأوروبي الحيز الأكبر من دعم كييف، والذي يفوق بدرجة كبيرة قدراته الاقتصادية والعسكرية والدفاعية، ولعل ما يشاهده العديد من البلدان الأوروبية من حراك مزارعيها الاحتجاجي على إغراق أسواقهم بالمنتجات الزراعية الأوكرانية على حساب تصريف محاصيلهم الزراعية الكبيرة، يؤكد ضرورة إعادة النظر لمدى انجرارهم وراء رغبات الولايات المتحدة الأميركية المشبوهة الرامية لافتعال حالة من العداء غير المبرر بين روسيا والقارة الأوروبية يخدم الأهداف الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية.
هنا تبدو الإضاءة مفيدة على ما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً من أن «الغرب بدأ يدرك استحالة هزيمة روسيا الاستراتيجية، فليفكر فيما يجب فعله بعد ذلك، نحن مستعدون للحوار» لافتاً إلى أن «أوكرانيا قررت رفض المفاوضات مع روسيا بناء على تعليمات من واشنطن، والآن على الولايات المتحدة الأميركية تصحيح هذا الخطأ».
كاتب سوري