منذ منتصف الصيف الماضي عملت أنقرة على إنضاج الظروف التي تجعل من قيامها بشن عملية عسكرية تطول مناطق سيطرة ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» التي تتهمها بعلاقة «رحمية» مع «حزب العمال الكردستاني» أمراً ممكناً، والمؤكد هو أن تلك العملية كانت ستستهدف هذه المرة، فيما لو حدثت، إلى تفكيك منظومتي «قسد» و«مجلس سورية الديمقراطي- مسد»، الفعل الوحيد الذي تراه أنه يحقق أمنها، والراجح أن تغييراً في تلك النظرة من الصعب له أن يحدث على المدى المنظور حتى ولو تغير النظام القائم في أنقرة فخلفه، مثلاً، حزب «الشعب الجمهوري» في السلطة، وما جرى هو أن الظروف إياها لم تنضج، ومن المؤكد هو أن واشنطن وموسكو، كل على انفراد ولأسباب مختلفة، كانتا قد عارضتا قيام الجيش التركي بعملية عسكرية جديدة تستهدف الشريط الحدودي بين رأس العين والمالكية، الأمر الذي وجدت أنقرة نفسها معه أمام خيارات جديدة، ومن ثم راحت تحاول تقليبها على أوجهها كافة، لنراها تارة تندفع باتجاه دمشق ثم تمضي في محاولات التقارب معها سبيلاً لقيام تنسيق سوري تركي تجاه مشروع «الإدارة الذاتية»، والشاهد هو أن تقارير وازنة كانت قد ذكرت أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد طلب، عشية زيارته الأخيرة للقاهرة، من نظيره المصري التوسط لدى الرئيس بشار الأسد بغرض حثه وتشجيعه على اتخاذ خطوة متقدمة على الطريق الموصل بين دمشق وأنقرة، وتارة عندما تصطدم هذه المحاولات الأخيرة بجدارات بدت عالية، نراها تذهب نحو مسار يهدف إلى تهشيم مشروعية «قسد» و«مسد» وضرب بناها التحتية سبيلاً إلى عزل منظومتها عن النسيج المجتمعي الذي تتحكم فيه.
تكثفت الضربات التركية ثم راحت تتخذ طابعاً منهجياً أكبر منذ أن عقدت «الإدارة الذاتية» لمؤتمرها الرابع بمدينة الرقة يوم 20 كانون الأول المنصرم، وهو المؤتمر الذي استبقته بالإعلان عن «العقد الاجتماعي الجديد» الذي وضع المنظومة برمتها في سياق تناكفي مع الكينونة السورية عبر تجاهله لإرادة 90 بالمئة من السوريين، وتناحري أيضاً مع أنقرة التي وجدت في الفعل تعاظماً للمخاطر المترتبة على حدودها الجنوبية، وعليه فإن الأخيرة ذهبت نحو مخطط واضح تهدف من خلاله إلى ضرب المرتكزات الاقتصادية التي يقوم عليها مشروع «الإدارة الذاتية» بدءاً من استهداف حقول النفط ثم مروراً بمحطات توليد الكهرباء ووصولاً إلى محطات المياه، الأمر الذي أدى من حيث النتيجة إلى خروج جزء كبير من تلك البنى عن الخدمة، ومن المؤكد هو أن هذا المخطط الذي يسير بشكل تدريجي وهو يلحظ التحولات الإقليمية والدولية، التي لم تلحظها «قسد» كما يبدو، ويسير عبر «هديها»، سوف يستمر بانتظار اتخاذ هذه الأخيرة نقطة انعطافية تسمح بتدمير كامل لن يكون صعباً حينها حدوثه بعد كل هذا التدمير الجزئي الحاصل والذي سيحصل في غضون المرحلة المقبلة.
تتحمل «الإدارة الذاتية» مسؤولية مباشرة عما يجري والذي سيؤدي بالضرورة إلى رفع سقف «فاتورة» إعادة الإعمار في البلاد، والمسؤولية إياها تتأتى عبر الربط الملحوظ بين كيانها وبين قيادات «حزب العمال الكردستاني» بشمال العراق، والأخير ما انفك يقدم الذريعة تلو الأخرى لأنقرة للقيام بما تقوم به، ففي الأول من شهر تشرين الأول الماضي نفذ بعض عناصره، وفقاً لبيان رسمي صادر عن الحزب، هجوماً على مركز شرطة بمنطقة كزلاي وسط أنقرة، وفي 12 كانون الثاني المنصرم نفذ هجوماً على قاعدة تركية بشمال العراق قضى من خلاله تسعة جنود أتراك، تلاه، قبل نحو أسبوع، بهجوم راح ضحيته جندي آخر، وإذا كانت هناك «مشروعية» من نوع ما للهجومين الأخيرين انطلاقاً من كونهما حدثاً على أرض عراقية والقوات التركية الموجودة عليها هي قوات احتلال، فما الذي يبرر الهجوم الأول الذي جرى على أرض تركية، بل يزيد منها أنه جرى بالقرب من البرلمان التركي الذي كان يتحضر لعقد جلسة لمناقشة انضمام السويد إلى حلف «ناتو»، وهذا يشير بالتأكيد إلى أن الهجوم يندرج في سياق صراعات دولية لا قبل لـ«حزب العمال الكردستاني» بتحمل تداعياتها، وليس من مصلحته أن يلعب دور «الخنجر» فيها.
من المرجح أن القيمين على مشروع «الإدارة الذاتية» لم يصلوا حتى الآن إلى حال يجدوا أنفسهم فيها أمام مراجعة حسابات، رغم يقينهم من أن المشروع برمته «يستأذن» بالانصراف، وللفعل دواعيه وموجباته من نوع أن «آمر الحركة» الأميركي لم يصدر عنه أمر بحدوث فعل من هذا النوع، وسواء تأخر الأمر أم تقدم، فالسياقات كلها سائرة بهذا الاتجاه، وحظوظ المشروع في اكتساب صفة الديمومة والاستمرار هي صفر، فلا الأميركيون في وارد التمكين لبقائهم في العراق وسورية، ولا الحقائق تشير إلى معطيات تشي بوجود «محفزات» التجذر، ليأتي أي من القيمين على المشروع بوثيقة تاريخية واحدة على الأقل تؤكد وجود «أرض كردية» على امتداد الجغرافيا السورية، أما سيناريوهات «التشاركية» التي جهدت «مسد» على إظهارها فقد باتت «بضاعة بالية» لا قيمة لها في سوق الصرف.
كاتب سوري