من اسطنبول إلى حيفا.. رحلة أسرة وأوطان … الرواية التوثيقية ودورها في تسجيل التاريخ كما حدث للأجيال القادمة
| إسماعيل مروة
تعدّ مرحلة بناء الدولة العربية المستقلة من نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين من أهم الحقب وأغناها، وأكثرها جدلاً، إذ تتنازعها تيارات عديدة بين ثائر يريد الدولة العربية، وآخر يريد المحافظة على ما يسمى بالوحدة الإسلامية، وما بين ساع وطموح للوصول إلى الدولة العربية، ومن يتمنى ويغرق في الأمنيات، وفي تلك الحقبة سمعنا برجال وأسماء عملت وضحّت من أجل الدولة العربية، بعضها اعتقل وعلّق على أعواد المشانق، وبعضها استمر في رحلته وتكثر الأحاديث والآراء حول هذه المرحلة ورجالاتها من المؤرخين الذين كتبوا ويكتبون، فماذا عن تلك المرحلة التي تعدّ الأكثر غنى من وجهة نظر من عاشها، وانخرط بها وكان فاعلاً؟!
الرواية التوثيقية
«من اسطنبول إلى حيفا» لكاتبها عمار نذير سنان، من حيث التصنيف تقف في جانب الرواية التوثيقية، فهي رواية لأحداث، لكنه ابتعد فيها عن الخيال والرسم للشخصيات، واعتمد فيها على الوثائق في رصد حياة أسرة شاركت وبقوة في تلك الحقبة من تاريخ الأمة، ولم يكتف بالوثائق، بل قام بالصياغة والتنقل والتبويب ما أضفى عليها صفة الحكائية أيضاً، ومن هنا يمكن تصنيف هذا الكتاب تحت مسمى الرواية التوثيقية التي تصور مرحلة اعتماداً على الوثائق والرسائل، وهي بذلك تصنيف للدارسين، والباحثين في التاريخ، إضافة لما حملته من رسائل وصور، كي يدرسوها دراسة موثقة، وتعطي كذلك للقارئ المتذوق متعة لصناعة الحدث والخيال لتحرك هذه الشخصيات في ميادين عدة، خاصة ما يتعلق بالصلة الموجودة لبعض الشخصيات بين الوظيفة والثورة العربية الكبرى، وما نتج عن ذلك من تغيرات أثرت في حياة تلك الأسرة في فقد عدد من أفرادها في أماكن متفرقة من أرجاء الوطن العربي، وهي الأسرة التي كانت لصيقة بالثورة العربية الكبرى وأميرها فيصل، وما تلا ذلك من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية كبرى.
معالم التوثيق ومصادره
الرواية التوثيقية هذه تبدأ من القرن التاسع عشر وتستمر حتى اليوم وحوامل هذه الرواية التي أنعشتها:
– الابنة التي تحمل اسم العائلة، وتنوء تحت أثقال الذكرى، وتحتفظ بالذكريات والرسائل والوثائق التي جاءتها من الأب عن الأسرة والأعمام.
– الحفيد كاتب الرواية أو السبط لآل التميمي، والذي وجد بحوزته كنزاً من الوثائق والرسائل والصور، وحباً بالجد، وبراً بالأم، وشغفاً بالتاريخ أراد أن يصوغ هذه الرواية الوثيقة.
– الرسائل، أو ما تبقى من الرسائل التي خطها أحد أبناء الأسرة التميمية، وهو فاعل في الأحداث وشاهد عليها.
تقول هيام ابنة زكي التميمي التي احتفظت بالمعالم والوثائق «هذا الكتاب سيقرؤه أحفادي وإخوتي المقيمون خارج سورية المتفرقون منذ سنين في كل أرجاء العالم، منهم الكندي، والبريطاني، والفرنسي، والسويسري، والسعودي، والفلسطيني، والأردني، والأميركي، والإسباني، هؤلاء هم الجيل الثاني من أحفاد الإخوة التميميين بهويات متعددة عربية وأجنبية، أتمنى أن يقرؤوا هذا الكتاب ليعلموا أصولهم على الأقل».
ومؤلف الكتاب يبدأ مظهراً هوية الأبطال في وثائقه «الإخوة الخمسة في هذا الكتاب درسوا، وتعلموا، وجاهدوا لبناء مجتمع ودولة إلا أن الفهم الخاطئ للسياسة، والمكايد التي حاكتها القوى العظمى أدخلتهم في موقع السذاجة، فلم يعوا المؤامرة إلا بعد حدوثها، لقد وثقوا بأشخاص عُرفوا بالمكر والتآمر».
بين الأسرة والمجتمع
من النادر أن نحظى بأسرة تجتمع فيها حكاية المجتمع والوطن، وحسناً فعل المؤلف حين جمع رسائل العم رشدي التميمي عم والدته لتكون المادة الأولى لهذه الرواية، فهؤلاء الإخوة، وعلى غير المألوف كانوا قريبين من السلطة بحكم علمهم وشهاداتهم، فهم في اسطنبول مع الباب العالي والوظائف المؤثرة في أرجاء السلطنة، وهذا أتاح لهم أن يعرفوا البلدان معرفة حقيقية، وميزة العلم والمواقع الفاعلة جعلت وثائقهم وصورهم ووسائلهم صورة واقعية للعصر الذي عاشوه.
– حين يأتي الحديث عن السلطنة، فهم أصحاب مواقع فيها.
– حين يتم الحديث عن الثورة العربية، فهم أصحاب السبق في الثورة.
– وعند الحديث عن الدولة العربية الفتية الجديدة هم من مؤسسيها.
– وبتوثيق رحلة الشريف حسين والأمير فيصل نعرف بأنهم كانوا قريبين منهما.
– وفي المؤتمرات والمباحثات مع الفرنسيين والبريطانيين يوجد واحد منهم على الأقل.
– وحين هاجر اليهود زرافات إلى فلسطين كانوا شهوداً على المجازر.
– وكانوا شهوداً على اجتياح مدينة حيفا، إذ سقطت مع خروجهم منها، وتركوا فيها كل نفيس وكل ذكرى.
وها هو رفيق التميمي يخاطب عوني عبد الهادي «إن كلمات لورانس لا تغيب عن أذنيَّ، فقد قال لي مرة أنتم العرب لا يمكن لكم أن تبنوا وطناً لأنكم تتبعون الأشخاص والقبيلة، أو الشيخ، ولا يمكن لكم بناء وطن وسنّ قوانين».
هكذا كان المستعمر يرى العرب، ووفق هذه الرؤية كان يضع الخطط ويتعامل، وإلى اليوم لم تتغير نظرة ذلك العالم لنا.. إنها وثائق للزمن الذي مضى، وللزمن المستقبلي، عسى أن يغير العرب من أنفسهم ليجبروا الآخر على تغيير نظرته، وعلى التعامل بنديّة.
وكم هو معبر ذلك المقطع «وفي 28 أيلول عام 1973 توفي زكي، فطويت صفحة من صفحات النضال، وترك أولاده يكملون الدرب من بعده ودفن في جدة بالمملكة العربية السعودية، وبقي أولاده هاني وهالة وهشام ومحمد علي في السعودية، وحصلوا على جنسيتها، وأصبح لزكي أحفاد سعوديون تزوجوا من السعودية ولبنان وفلسطين وسورية، فتوزعت عائلة زكي في شتى أنحاء العالم أسوة بكل الفلسطينيين الذين هاجروا عام 1948 من فلسطين».
هذا الكتاب الذي لم يجنّسه كاتبه، والصادر عن دار بستان هشام في دمشق يدخل في إطار المذكرات أو الرواية التوثيقية التي يمكن أن تقدم معلومات مهمة على كل صعيد وعن قرب:
– عن الشريف حسين وتعامله مع الغرب والعثمانيين.
– عن الأمير فيصل والحكومة العربية الأولى التي بقيت حلماً.
– عن شخصيات وطنية عاش معها هؤلاء التميميون.
– العمل الوظيفي وأثره في انتقال الأشخاص وتشتتهم.
– الأصل الواحد كثير من العرب الذين فرقتهم يد الدهر قبل أن ترسم الحدود.
يضاف (من اسطنبول إلى حيفا) على خطا آل التميمي إلى الكتب التوثيقية المهمة والتي يمكن أن نعيد النظر من خلالها بما وصلنا من معلومات، عن حقبة من أغنى الحقب في حياة العرب، والتي ما زالت صفحات منها مطوية ومجهولة، فشكراً للمؤلف الذي كشف هذه الرسائل التي بين يدي السيدة والدته، وكم من وثائق موجودة لدى آخرين لا يعرفون قيمتها، ويمكن أن تطويها يد النسيان؟!