منذ أن تم الإعلان عن قيام «دولة» إسرائيل في أيار 1948 احتوى كيانها على العديد من التناقضات التي كان أبرزها ثلاثة: التناقض الديني- العلماني الذي برز من خلال بنية اقتصادية وتكنولوجية متطورة يقابلها بنية ثقافية- قيمية شديدة التخلف، ثم التناقض بين اليهود الشرقيين «السفارديم» واليهود الغربيين «الأشكناز» وهؤلاء الأخيرون هم من المهاجرين الأوروبيين الذين حملوا معهم المشروع الصهيوني وفكرة «المخفر الغربي» المتقدم في الشرق، أما الثالث فهو ناجم عن قيام مجتمعين أولهما يحظى مواطنوه بدرجة التفوق والتميز، في حين حظي الآخرون، وهم كلهم من الفلسطينيين، بمواطنة من الدرجة الثانية التي راحت «مزاياها» تنحدر ثم تنحدر على وقع تجدد جولات الصراع.
كان ديفيد بن غوريون، المحسوب على العلمانيين الأشكناز، مدركاً جيداً لضرورة ضبط تلك التناقضات، ما دام حلها يبدو مستحيلاً تبعاً لمعطيات تتعلق بالبنيان ثم بالاحتياجات اللازمة لاستمرار هذا الأخير، ووضعها في قوالب يمكن السيطرة عليها حيث لا تتحول إلى حالة من الصراع الداخلي الذي قد يخلق شروخاً يصعب التئامها، أو يؤدي إلى نوع من الحرب الأهلية، ما يعوق تثبيت أركان «السفينة» التي ارتمت وسط خضم من الأمواج، ومن الصعب على أي مركز للأرصاد التنبؤ في: متى سوف تعلو؟ أو كم ستطول فترة «المد»؟ ثم متى ستكون الموجة الثانية وما شدتها؟
بعيد انتصار ثورة تموز في القاهرة عام 1952 شد بن غوريون رحاله إلى مستوطنة «بني براك»، التي أنشأت عام 1924 على حدود قرية «الخيرية» الفلسطينية شرق تل أبيب كمعقل لـ«الحريديين»، التي تعني المتدينين أو الأتقياء، وهناك التقى الحاخام إبراهام يشيعاهو الذي كان له الصوت الغالب لدى هؤلاء، وفي ذلك اللقاء كان الحديث يتمحور، وفقاً لسلسلة وثائق نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» في الذكرى الستين لقيام الكيان، حول نقطة جوهرية مفادها: إذا ما اضطر «الكبشان» (يقصد بهما العلمانيون والمتدينون) للمرور في مضيق لا يتسع لكليهما، فمن يجب أن يمر أولاً؟ ومن المؤكد أن الجواب، والاتفاق عليه، سيكون على درجة عالية من الأهمية في تحديد هوية الكيان والصبغة التي تلونه، ودونما شرح قال بن غوريون إنه يرى أن «الحريديين» ضروريون للكيان الوليد وأن المحافظة على دورهم يقوي من النسيج المجتمعي لدى هذا الأخير، أما «العلمانيون» فدورهم يطول «الاستيطان» وحماية الدولة، وفي حينها اشترط ابراهام يشعياهو لموازنة تلك المعادلة، التي بدت مختلة وفق منظوره، أن تقر حكومة بن غوريون قانوناً يقضي بعدم خضوع «الحريديين» للتجنيد الإجباري، الأمر الذي حصل فيما بعد بفترة قصيرة.
استمر الصراع الدائر بين التيارين فترة مديدة لكن من دون أن تمس أي من الحكومات الإسرائيلية بهذا القانون الأخير، لكن تزايد الثقل المجتمعي لـ«الحريديين» الذين قالت إحصائيات رسمية أنهم شكلوا عام 2019 ما نسبته 13 بالمئة من سكان إسرائيل مع توقعات بأن تصل تلك النسبة إلى 19 بالمئة عام 2035، فرض التعاطي مع «مسألة» إعفائهم من التجنيد بطريقة مختلفة، فإن يعفى شخص من كل خمسة أشخاص من الخدمة أمر ستكون له تداعياته على التوازنات السائدة بين شرائح المجتمع، ناهيك عن أن الفعل وحده، أي فعل الإعفاء من التجنيد، سوف يؤدي إلى تنامي ثقل تلك الكتلة من خلال الهروب نحو «التدين» وسيلة للهروب من التجنيد، وخصوصاً أن «الهاربين» يتمتعون بمزايا أخرى من نوع الدعم المادي الذي يحصلون عليه فقط لأنهم منتمون لتلك الشريحة، وعليه، فقد قامت المحكمة العليا في كيان الاحتلال، عام 2017، بإلغاء قانون التجنيد الذين أعفى «الحريديين» من الخدمة العسكرية، مع إعطاء مهلة لتطبيق ذلك القانون منعاً لحدوث الصدام، ثم تتالت المهل إلى أن انفجر الصراع مطلع آذار المنصرم.
يوم 9 آذار المنصرم قال الحاخام الشرقي الأكبر يتسحاق يوسف خلال حلقة لتعليم التوراة: «إن سبط لاوي معفى من الخدمة في الجيش، ولا يتم تجنيده تحت أي ظرف كان» وأضاف: «إذا أجبرونا على الذهاب إلى الجيش فسنسافر جميعاً إلى الخارج، سنشتري تذاكر ونغادر»، ولعل خطورة ذلك تتأكد بوضوح في الشعارات التي رفعها «الحريديين» في خضم زلزال 7 تشرين الأول الذي تزامن مع إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على فرض التجنيد عليهم، بعض تلك الشعارات جاء على لسان تسيبي فريدمان الذي قال: إن «الحريديين يفضلون الجلوس مع الخنازير على الجلوس مع العلمانيين»، وإنهم «يفضلون السجن أو القتل على أن يتجندوا»، وفي أعقاب نشر الرد القانوني الذي تقدمت به المستشارة القانونية لحكومة نتنياهو الذي أكد ضرورة خضوع «مواطني إسرائيل كلهم، ودون استثناء، للتجنيد الإجباري»، رفع نواب الأحزاب الدينية شعارات التنديد مهددين بإسقاط الائتلاف الحاكم الذي يلعبون فيه دور «الحجرة» التي تسند «الخابية» التي طاولها التصدع من على جوانبها، بل طاول حلقاتها التي تتيح نقلها من مكان لآخر.
عاد نتنياهو لسياسات بن غوريون الاحتوائية، الأمر الذي يمكن لمسه عبر العديد من المهل التي طلبها بغرض التوصل إلى اتفاق يكون من شأنه حل أزمة مستعصية توازي في عمرها عمر الكيان، والراجح أن نتنياهو، الذي منح ثلاث مهل حتى الآن، لن يستطيع الوصول إلى نتيجة مهما تعددت المهل ومهما كانت القدرة على المراوغة والاحتواء، فالعطب بنيوي وهو يطول «القلب» بينما المعالجات تتركز على «البثور» الظاهرة على الجلد.
كاتب سوري