منذ ظهور الجماعات البشرية الأولى، وفي العصرين الحجريين، القديم «الباليوليتي»، والحديث «النيوليتي»، ظهر الصراع من أجل الموارد والبقاء بين المجموعات البشرية بعضها ضد بعضها الآخر، وفي داخل كل جماعة بشرية على حدة، ويمكن القول إن هذا الصراع تطور بمرور الزمن، ومع تطور الاجتماع الإنساني، ليأخذ شكل الصراع بين الدول بعضها ضد بعضها الآخر، والصراعات الداخلية ضمن المجتمع الواحد والدولة الواحدة.
وفي كلتا الحالتين، البدائية والمتحضرة، بواعث الصراع تبقى ذاتها، وهي التنافس على المقدرات المادية والثروة والنفوذ والسيطرة.
وبالطريقة ذاتها التي لا يمكن فيها أن نتصور زمناً ينتهي فيه الصراع بين الدول، فمن العسير جداً أيضاً أن نتصور انتهاء الصراع بين القوى والشرائح الاجتماعية ضمن أي مجتمع أو دولة.
بيد أن سلطة اللغة الموروثة والكلاسيكية على الخطاب السياسي تفرض أحياناً تأويلاً غير مناسب لبعض المفاهيم السياسية في تجلياتها الحداثية.
فمصطلح «الصراع»، المشتق من الثلاثي «صَرَعَ»، يتضمن لغوياً معنى «قَتَلَ» أو «طَرَحَ أرضاً»، وكلاهما ذو مدلول عنفي يبدو غير مناسب للمجتمعات المتحضرة، ولا يخرج عن ذلك أيضاً مصطلح conflict المشتق من كلمة cōnflīgere اللاتينية، والتي تعني تبادل الضرب.
وبخلاف حالة «الصراع» ذي البعد العنفي- العسكري بين الدول، والذي يبدو ملائماً لغوياً للجذر «صَرَعَ»، فإن الصراع بين الشرائح والطبقات ضمن المجتمع الواحد ينبغي أن يأخذ شكل التنافس الحضاري المنظّم وليس مظهر الصدام العنيف.
ولذلك إذا اردنا إنهاء ملامح أو احتمالات الصراع الطبقي، الصدامي)، فعلينا أن ننظم تناقض المصالح، أو أن نضمن التعبير عنه سلمياً ضمن إطار المؤسسات الدستورية، بمعنى آخر أن نحقق مأسسة وقوننة تنافس المصالح ضمن صناديق الاقتراع، أي عملياً التحول إلى مفهوم «احترام الصراع».
لذلك فإن احتواء صراع المصالح، بين الشرائح والطبقات، ضمن إطار المؤسسات الدستورية هو عبارة عن عملية هدفها صياغة توازن بنّاء، وليس حرب إلغاء.
وبالمقابل لا يمكن أن يُترك الدفاع عن مصالح الطبقات من دون ثقل سياسي مؤسسي يترجم الثقل الشعبي، وبالتالي ضمان مصالح طبقة ما لا يعود لشخص أو مجموعة أشخاص يتبعون سياسة استنسابية، مهما علا شأنهم سياسياً أو وطنياً، بل يجب أن يُعبّر عنه برلمانياً، وذلك بهدف تحديد وزن هذا الثقل السياسي من جهة، وضمان حراسة هذه المصالح استناداً إلى شرعية شعبية دستورية من جهة أخرى.
وهنا يجب أن نعي جيداً أنه ما لم يتم تنظيم الصراع ضمن الأطر الدستورية الضامنة للعقد الاجتماعي، فإن هذا التناقض قد يعود لينفجر بصورة صدام أو اضطرابات عنيفة، طال الزمن أم قصر.
وما يعنينا في إطار الحديث عن مسار الإصلاح «البعثي» هو أن البعث، أو أي حزب آخر، لا ينبغي أن يندب نفسه لمهمة «التوفيق بين المصالح المتضاربة بين الطبقات»، كما ورد في العناوين التي أعلن عنها في جلسات الحوار الاقتصادي البعثي، بل تلك هي مهمة المؤسسات الدستورية التي تعبر عن هذه المصالح المتضاربة بالتوازنات القائمة في البرلمانات، والمستندة إلى صناديق الاقتراع.
فإذا تعرضت مصالح الطبقة العاملة مثلاً للضرر، يُترجم ذلك بزيادة التصويت للأحزاب المدافعة عن مصالحها في اليسار، وبالتالي زيادة ثقلها البرلماني ومن ثم الحكومي، وكذلك بالمقابل شأن القوى المجتمعية أو الشرائح الأخرى.
فالبعث في إطار مفهوم العقد الوطني- القومي هو حزب قومي عربي، أما في إطار مفهوم العقد الاجتماعي، فهو حزب نشأ للدفاع عن مصالح العمال والفلاحين، وإذا سعى البعث إلى أن يكون إطاراً لـ«التوفيق بين المصالح المتضاربة بين الطبقات» فهذا يعني أنه يأخذ دور المؤسسات الدستورية المنوط بها تحقيق ذاك التوازن بين القوى والأحزاب السياسية المختلفة ضمن الإطار البرلماني.
وإذا تحول أي حزب إلى شبيه بمؤسسة دستورية وطنية، فسيتم نزع الإيديولوجيا منه حكماً، لأن المؤسسات الدستورية الوطنية هي للجميع، وربما يفسر ذلك خطاب البعض، البعثي، في «ذم» أو «تفكيك» أو «تهميش الإيديولوجيا».
لا ينبغي لـ«البعث» بتقديري أن يسعى «للتوفيق بين المصالح المتناقضة بين الطبقات»، بل ينبغي له أن يدافع عن حقوق الطبقة التي خرج من رحمها، وأن يتعلم، كحزب أغلبية، أو حزب حاكم، المضي قدماً في قبول الآخر، وفي قبول التعددية السياسية الحقيقية، بل المساعدة في تحقيقها وتعزيزها على أرض الواقع، لأنها السبيل الوحيد نحو تحقيق تداول السلطة في الإطارين البرلماني والحكومي، والوصول بالتالي إلى حالة «احترام الصراع».
كاتب سوري