لم يحظ مؤتمر لحزب البعث بمثل ما حظي به اجتماع اللجنة المركزية الموسع يوم الرابع من أيار الجاري الماضي لأسباب كثيرة وعديدة، وفي الوقت نفسه شكل خطاب الرئيس بشار الأسد أمام هذا الاجتماع نقطة تحول تاريخية ومهمة، ليس لأننا نستخدم هذا المصطلح من باب المديح والإطراء كما اعتاد البعض أن يشير لذلك، وإنما سأشرح لماذا هو تاريخي؟ ولماذا مهم؟ وفي هذا المقال سأتناول بعض الجوانب المهمة في خطاب الرئيس الأسد من ناحية، وأعمال المؤتمر من ناحية أخرى، مركزاً على النقاط التي أربكت البعض في فهم ما يجري، ومبدداً حالة الإحباط التي ظهرت عند البعض الآخر نتيجة لاعتقاده بأن الإصلاح والتغيير هو عملية تتم بقرار، أو بمؤتمر، أو بأشخاص خاصة أن مجتمعنا يركز على الأسماء وهذا حقه، لكنه لا ينتبه إلى أهم ما قاله الرئيس الأسد من أنه من دون إصلاح المنظومات لا إمكانية للأشخاص أن يحدثوا فارقاً كبيراً، فالتطوير هو مسار يحتاج إلى آليات واضحة وبنى تنظيمية جديدة تتناسب مع العصر وتطورات المجتمع، وإلى رؤى وأهداف قابلة للتطبيق والقياس، ولتغذية راجعة لمعرفة الأثر والنجاح.
في كل الأحوال الحديث يحتاج إلى مقالات عديدة تتناول جوانب مختلفة لوضع الرأي العام السوري في تفاصيل ما جرى وسيجري في المرحلة القادمة، وسأشير إلى النقاط التالية:
1- أين نحن الآن؟ نحن في مرحلة انتقالية، والمراحل الانتقالية غالباً ما تكون غير مستقرة، وتحتاج إلى الصبر لأنه يجري تفكيك منظومة قديمة، وبناء منظومة جديدة تستند إلى إيجابيات القديم، وتضيف إليه عامل المتغيرات والحاجات للحزب والمجتمع والدولة، لذلك فإن كثيرين ذهب اهتمامهم نحو القيادة المركزية وأعضائها وتوزيع مكاتبها كما اعتادوا، من دون أن ينتبه كثيرون إلى أن مؤسسة اللجنة المركزية للحزب ستكون فاعلة في المرحلة القادمة، وقد سماها الرئيس الأسد بـ«قلب الحزب»، إضافة إلى تفعيل لجنة الرقابة والتفتيش، والحقيقة أن العمل القادم هو عمل تفصيلي لتوضيح دور هذه البنى التنظيمية وكيف ستقوم بأدوارها لتحقيق هدف واحد هو تحقيق التوازن، وإنشاء آليات المراقبة والمحاسبة بناء على الأداء والفاعلية، ومن يعتقد من الآن وصاعداً أنه سيجلس على الكرسي لدورة حزبية كاملة من دون مساءلة فهو مخطئ، لأن آليات الرقابة سوف تزداد من الأدنى للأعلى وصولاً إلى حجب الثقة عن أي قيادي بعثي من المؤتمرات الحزبية على مستوى المحافظات، ومن اللجنة المركزية بالنسبة للقيادات الأعلى بعد وضع الآليات والضوابط اللازمة.
هذه المرحلة الانتقالية ستحضر لإعادة هيكلة وظائف وتسميات مكاتب القيادة، وتطبيق ذلك من الأعلى للأدنى، وتحديد أدوارها، وكذلك نظام التفرغ الحزبي، والنظام المالي وغيره الكثير، وهذا عمل كبير وواسع، وكي أطمئن الكثيرين كان الرئيس الأسد واضحاً جداً عندما طالب الجميع «بالعمل فوراً دون مماطلة وتأجيل، فالزمن هنا أكثر من مهم، إضافة إلى أن الحلول لن تكون بيد أشخاص إنما ستتم عبر حوارات معمقة مع القواعد والمجتمع لإنضاج الرؤية من جهة، وتوفير حوامل اجتماعية لمشاريع الإصلاح القادمة»، فالحلول لا تبنى، كما قال الرئيس الأسد، على رأي الأمين العام أو رئيس الجمهورية، أو رئيس الحكومة أو قيادة حزب أو حكومة إنما تحتاج إلى إطلاق حوار واسع أولاً على المستوى الحزبي بكل مستوياته، والوطني ثانياً، وبعد ذلك يمكن اتخاذ القرار الصحيح.
لم يعتد كثيرون على هذا النمط من العمل والتفكير، فقد اعتاد البعض لزمن طويل على التعليمات من الأعلى للأدنى، التي كانت تحمل مصطلحاً متداولاً بين السوريين تحت عنوان «توجيهات» من دون أن يعرف أحد من أين أتت، ومن أعطاها، ولماذا؟ وأي مصلحة عامة فيها وصولاً إلى حد أن انتخاب مختار القرية يتم بالتوجيهات وليس بإرادة الناس؟!
هذه الصيغ الجديدة التي أطلقها الرئيس الأسد سوف تنهي التلاعب الذي كان يتم باسم هذه الجهة أو تلك، فحديث الأمين العام للحزب كان شفافاً جداً، أجاب فيه عما كان يتم الهمس به والحديث عنه خلف الجدران، إذ بعد كلام الرئيس الأسد يجب أن يعرف الجميع أننا أمام مرحلة جديدة تماماً ستبني ثقافة مختلفة وآليات عمل علنية وواضحة.
2- تحديات حزب البعث: لقد أشرت فيما سبق إلى التحدي التنظيمي والمؤسساتي داخل الحزب، وعلاقات الحزب الداخلية، لكن المواطنين والبعثيين يجب أن يدركوا أن الحزب ليس سلطة تنفيذية بل هو لكونه حزباً حاكماً، والبعض اعتبر أن التسمية الصحيحة هي «حزب الأغلبية» كما قال لي صديق سياسي عتيق، دوره هو رسم السياسات العامة وفقاً لرؤيته الإيديولوجية والفكرية، وقيام ممثليه في السلطة بوضع برامج تنفيذية لهذه السياسات، لتقوم مؤسسات الحزب المختلفة لاحقاً بمراقبته، وتقييم ورصد الأداء ومدى التنفيذ، وليس الحلول محل السلطة التنفيذية والتدخل في عملها اليومي ليتحول المسؤول الحزبي إلى مسؤول سلطوي نسي مجتمعه، ونسي الفكر، والثقافة، وصناعة الوعي، والتحديات التاريخية التي تواجه بلده وشعبه، ولهذا إذا سألنا: لماذا اخترقنا في الأرياف خلال الحرب، أجيب: لأن مسؤولي الحزب نسوا دورهم، وانشغلوا بالسلطة ومكاسبها، ومنافعها، والصفقات، والمصالح الآنية والانتهازية، ووجدنا أنفسنا أمام فراغات كبيرة جداً ملأتها القوى التي تآمرت على بلدنا، أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الشائعات.
أما التحديات الأكثر خطورة فهي تراجع الجانبين القيمي والفكري، وهو ما أشار إليه الرئيس الأسد بإعادة صياغة فكر الحزب بما يتماشى مع عصرنا، ولكن بما لا يخالف انتماءنا، أي بالشكل الذي يتفاعل مع حاضرنا، ولكن في الوقت نفسه لا يسلخنا عن جذورنا.
لقد اعتقد البعض أن حزب البعث قد تحول إلى حزب قطري، أو محلي، وتراجع عن فكره القومي، وباع الاشتراكية، والحقيقة أن هذه التصورات كلها خاطئة، وليست دقيقة، فحزب البعث حزب قومي عربي كان ولا يزال، لكنه تخلى عن المقاربات الرومانسية التي طغت على تصوراته خلال العقود الماضية، إذ تحول إلى حزب يلتقي مع الأحزاب القومية المرخصة في الدول العربية كلها، وكذلك التيارات السياسية العروبية، وحتى الشخصيات القومية في دول الخليج مثلاً التي كان يصفها البعض سابقاً بالدول الرجعية، وهي تصورات تقوم على وحدة الفكر ولا مركزية التنظيم، إذ لكل حزب عربي حريته في العمل داخل القطر وفقاً لدستور بلاده وقوانينها، لكن النشاط المشترك يقوم على مواجهة مشاريع التفتيت والتقسيم من جهة، وعلى التفكير الواقعي للكيفية التي يمكن بها بناء مصالح مشتركة تحول العرب من واقع ضعيف إلى واقع قوي في هذا العالم، وهذا موضوع طويل يحتاج إلى مقالات كثيرة، أما مقاربة الحزب لمفهوم الاشتراكية فهي ليست مقاربة نظرية أكاديمية مغلقة بل إن الاشتراكية هي تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية، والأهم ابتكار الآليات المناسبة لتقديم الدعم للطبقات الفقيرة عبر مفهوم اقتصادي وليس خيرياً، وإعادة النظر بدور القطاع العام ليتحول إلى قطاع قادر على الاستمرار في ظروف المنافسة الاقتصادية، أي تطبيق قواعد اقتصادية رأسمالية، ولكن مع دور اجتماعي مركزي للدولة لضبط الأسواق، ومنع توحش رأس المال والشركات، وقد يبدو أن النموذج الصيني هنا هو الأنجح عالمياً.
النقطة الجديرة بالاهتمام أيضاً هي تراجع القيم وطغيان الحالة الانتهازية المنفعية بسبب ضعف العمق الروحي- الفلسفي والقيمي لدى كثيرين، واللهاث وراء المال من دون شبع، ومن دون إحساس بفقر الناس وحاجاتهم، وسوف أعطي مثالاً واحداً على ذلك آلمني جداً، وأشعرني بقلة الوفاء لبعض البعثيين، إذ غاب وعيهم الوطني خلال الانتخابات، وفكروا بأنفسهم فقط بأنانية مفرطة من دون أن يلتفتوا إلى وجود أسماء لضباط متقاعدين شاركوا لأول مرة في هذه الانتخابات، ودون أن يصوتوا لاسم واحد في كل قائمة، وفي هذا تخلٍ عن الشرفين البعثي والوطني، فالجيش وقادته المتقاعدون هم تاج على رؤوسنا، قاتلوا بشرف، وكانوا أمينين للقسم العسكري، وبالتالي فإن أقل واجب منا هو تكريمهم ليس منةً بل لأن لديهم أيضاً خبرات كبيرة في مختلف المجالات، وهذه ظاهرة سلبية تجب معالجتها مستقبلاً!
أما الجانب الآخر اللافت فهو ضعف تمثيل المرأة والشباب، إذ لم تنجح في انتخابات اللجنة المركزية سوى 6 نساء من أصل 80 عضواً، أي بنسبة نحو 7 بالمئة، ما اضطر الرئيس الأسد لترميم ذلك من خلال حصة الـ45 ليصل عددهن إلى 15 امرأة، أي بنسبة 12 بالمئة فقط، وهي نسبة ضئيلة قياساً بنسبة المرأة العالية في مجتمعنا بسبب الحرب.
أخيراً: كي لا يلتبس على أحد ما ورد في عنوان المقال «تنظيف المياه الآسنة»، فإنني أقصد بالضبط ليس الأشخاص أبداً، إنما ما سماه الرئيس الأسد، السلبيات التي تراكمت عبر تاريخ الحزب لعقود، إما بسبب عدم التطوير أو بسبب عدم معالجة الأخطاء المتراكمة، ليخلص إلى نتيجة مهمة للغاية: «بأن ما يخيفنا هو ليس الأعداء مهما تكاثروا، ومهما أظهروا من شراسة، ولكن ما يخيفنا حقيقة هو عدم معالجة هذه الأخطاء والتراكمات، لأنها هي التي يمكن أن تؤدي إلى إسقاط الحزب مؤسسة وعقيدة».
هذا هو المقصود بالمياه الآسنة وقد حان الوقت، كما أفهم، لأن نُشمر عن سواعدنا لنبدأ عملاً شاقاً للتنظيف والتطهير، فالتطوير حاجة حزبية ووطنية وطبيعية، وكلما ازدادت الظروف قساوة أصبح التطوير أكثر حاجة، وليس العكس، فالتأجيل ليس الخيار الصحيح، كما أكد الرئيس الأسد الذي يجب علينا أن نحمل مشروعه من أجل مصلحة بلدنا وشعبنا وحزبنا، وشبابنا الذين يجب أن نعطيهم بصيص أمل حقيقياً قبل أن نفقدهم.
كاتب سوري