شرق الفرات.. حراك على ضفتي النار والبرودة
| عبد المنعم علي عيسى
وضعت التصريحات التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم 4 آذار المنصرم، والتي عبر من خلالها عن عزم بلاده على «التخلص نهائياً من تهديد حزب العمال الكردستاني في شمال سورية والعراق بحلول الصيف المقبل»، ملف «شرق الفرات» السوري على نار «نصف حامية» حيث اكتمال الفعل كان يتطلب بالضرورة حصول أنقرة على ضوء أخضر أميركي وكذا نظير له روسي، الأمر الذي جهدت أنقرة في الحصول عليه لكنها لم تنجح، أقله حتى الوقت الراهن، بدليل الإعلان عن تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن التي كان ينوي القيام بها يوم 9 أيار الجاري، والمؤكد هو أن افتراقات عدة كانت قد لعبت دوراً في ذلك التأجيل، لكن المؤكد أيضاً أن الافتراق الأوزن كان يتمحور حول ملف «شرق الفرات» السوري، والدعم الذي ما انفكت واشنطن تقدمه لـ«قوات سورية الديمقراطية قسد» المصنف «إرهابياً» على اللوائح التركية بوصفها طبعة سورية من «حزب العمال الكردستاني» كما تقول أنقرة، والراجح هنا هو أن حالة «مواربة» الباب الأميركي، الذي تُرك نصف مفتوح ونصف مغلق بوجه المسعى التركي، كان ينطلق من حسابات أميركية لها علاقة إحكام «قسد» لقبضتها على معسكرات «داعش» التي تشير تقارير إلى أنها تحوي نحو 70 ألفاً من مقاتلي، وعوائل التنظيم، لكن هذا الملف لا يبدو راكداً حيث تسعى واشنطن إلى إيجاد حلول له عبر تشجيع الدول على استعادة رعاياها من تلك المعسكرات بشتى السبل، وهي نفسها أعلنت قبل أيام عن استعادة 11 عنصرا من مواطنيها مع عوائلهم مما يشير إلى جدية ذلك التوجه.
زار أردوغان بغداد يوم 22 نيسان المنصرم، وعاد منها برزمة من الاتفاقات كانت في جلها اقتصادية لكن «الصيد الثمين» الذي عاد به كان قد تمثل بانتزاع تصنيف اعتمدته كل من بغداد وأربيل على حد سواء وهو يضع «حزب العمال الكردستاني» في وضعية «الحزب المحظور» التي اكتفت بها أنقرة بعد أن ألمحت، في صحافتها المقربة من مواقع القرار إلى أن الفعل يضع الحزب في «خانة اليك»، ويؤسس لـ«مشروعية التحرك ضده على اعتبار أنه يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين»، والراجح هو أن ذلك «الصيد» الذي عاد به أردوغان هو الذي دفع بواشنطن إلى تأجيل زيارة هذا الأخير إليها انطلاقاً من أن مخرجات زيارته لبغداد تعطيه «الذريعة» لتسريع الخطا نحو تهديداته، الآنفة الذكر، التي أطلقها مطلع شهر آذار المنصرم.
شكلت تصريحات وزير الدفاع التركي يشار غولر التي أطلقها يوم 5 أيار من على قناة «سي إن إن» التركية، والتي ذكر من خلالها أن موقف بلاده بشأن سورية واضحة «لدينا ما ننتظره من النظام وهو قبول الدستور (الجديد)، وإجراء انتخابات حرة، وسنحترم من يفوز بهذه الانتخابات»، جنبا إلى جنب التصريحات التي أدلى بها أردوغان يوم 7 أيار الجاري والتي أكد من خلالها أنه «ما دام بي كي كي (حزب العمال الكردستاني) يجد لنفسه متنفساً في العراق وسورية لا يمكن أن نشعر بالأمان مطلقاً»، قبيل أن يضيف «عندما يحين الوقت سنكمل عملنا في سورية، والذي ترك غير مكتمل، بسبب الوعود التي قطعها حلفاؤنا ونكثوا بها»، نقول شكلت تلك التصريحات نوعاً من الضغط على الحكومة السورية لربما كان يرمي للحصول على «صيد» منها ثمين شبيه بذلك الذي تم الاستحصال عليه من نظيرتها العراقية، ولربما، فيما لو حدث ذلك، سيكون «الصيد» هنا أثمن بما لا يقاس من «صيد» بغداد لاعتبارات عدة، ناهيك عن أنه سوف يثقل من «أوراق» أردوغان التي سيحملها إلى واشنطن عندما تحين ساعة الزيارة.
كعادتها، وكلما لاح حراك ما في الأفق ومن أي نوع كان، التقطت «قسد» الإشارات الراصدة للرياح التركية التي حملت بين طياتها احتمال أن تقوم أنقرة بشن عملية عسكرية، ستكون الرابعة فيما لو حصلت، وهدفها هذه المرة السيطرة، كما يبدو، على المنطقة الواقعة بين منبج بريف حلب وعين العرب بريف الرقة، في محاولة لتقطيع أوصال «المدن الثلاث» التي يبدو أن «الإدارة الذاتية» تستظل بها للحصول على مواصفات «الإقليم» أسوة بتجربة الشمال العراقي، وفي سياق الالتقاط الآنف الذكر، أعلنت مواقع قريبة من «قسد» أن «وفداً كردياً ينوي التوجه إلى دمشق لإجراء جولة جديدة من الحوار مع الحكومة السورية»، وقد أضاف الإعلان السابق أن «الوفد سوف يضم للمرة الأولى عناصر من الأكراد المستقلين»، بمعنى أنهم لن يكونوا من أعضاء «حزب الاتحاد الديمقراطي- PYD»، ولربما جاء ذلك للإيحاء بأن الطروحات قد تحمل جديداً على الرغم من أن فرضية من هذا النوع تبدو بعيدة لسبب أساسي هو أن هذا الأخير لن يأتي بـ«مستقلين» إلا إذا كانوا من نوع «المستظلين بظله»، أو هم يدورون في فضاءاته، والجدير ذكره هنا في هذا السياق أن الجزء الأوزن من النسيج المجتمعي الكردي لا يدور في الفضاءات إياها السابقة الذكر، بل على العكس من ذلك ترى الأغلبية من هذا الأخير أن التعايش داخل النسيج السوري الأرحب هو الخيار الأمثل لها دون أن يعني ذلك تخليها عن خصوصيتها الثقافية التي لا مانع لدى أي من التيارات السورية، بما فيها الحكومة، من احتفاظهم بها.
لا تزال «قسد» ومجلس سورية الديمقراطية- مسد» تعايران ما يجري في المحيط السوري من زاوية واحدة هي الربح والخسارة، ثم أي من الخيارات هو الذي يراكم مكاسب أكبر لـ«المشروع» الذي تراه يترنح على وقع تلك المجريات، فتحاولان الإمساك بـ«خشبة» من هنا و«قشة» من هناك، لعل الفعل يطيل من عمر «المشروع»، فيما الاثنتان، «قسد ومسد» موقنتان بدرجة لا يدانيها الشك بأن عمر هذا الأخير الافتراضي لن يتجاوز الـ24 ساعة من بدء إعلان «قوات التحالف الدولي» عزمها على سحب قواتها من الأراضي السورية.
كاتب سوري