بين الاستئناس الحزبي ومرَض الحياة السياسية.. ماذا ننتظر من انتخابات مجلس الشعب؟
| فراس عزيز ديب
يتوجه السوريون في صباح الغد إلى مراكزِ الاقتراع لانتخابِ ممثليهم إلى مجلس الشعب، انتخابات شهدت الكثير من السجالات داخل الحدود وخارجها، لكن ما يهمنا هنا هي السجالات الداخلية التي تحتم علينا تجاهلَ أي مقدمةٍ طويلة قبل الدخول بتفاصيلها.
مبدئياً دعونا نذكِّر بأن هذهِ الانتخابات هي استحقاق دستوري أولاً وأخيراً، وعندما نتحدث بهذا المفهوم فعلينا إعادة التذكير بأن هناك فصلاً تاماً بين الرأي الشخصي بالاستحقاق الدستوري وهذا حق لكل مواطن، وقدسية هذا الاستحقاق التي يستمدها من الدستور نفسه، فالدول المكوَّنة من مجتمعات مختلفة قد تتباعد فيما بينها حول مفهوم المقدسات تحديداً بما يتعلق بالعلاقة الروحية مع الخالق، لكن لا يمكنها تطبيق هذا التباعد مع الدستور، لأن الدستور في المجتمعات المتحضرة هو النص الوحيد الذي يتقدم على كل النصوص من دون استثناء، والجامع لكل فئات الشعب.
من جهةٍ ثانية فإن الاستحقاق الدستوري لا علاقة له بأشخاص، لأنه لم يوجد ليحمي أشخاصاً بعينهم بل ليحمي مناصب دستورية، فلا يوجد مثلاً ما يمنع دستورياً من انتقاد وزير أو حتى عضو في مجلس الشعب، وإذا كان هناك من يتذرع عن غباء بذكرهم في الدستور وربط مكانة المؤسسة بانتقاد من يتولى شؤونها، فإن على هؤلاء المنافقين أن يتذكروا بأن مقدمة الدستور السوري تحدثت عن المواطن السوري ذات نفسه عندما أناطت بالشعب والمؤسسات أدوار النهوض بالمجتمع والدولة، بهذا المفهوم فالمواطن والمسؤول سواسية كأشخاص ووجود المسؤول في المنصب يحمي المنصب لكنهُ لا يحمي الشخص، إذن نحن متفقون بأن احترام المواعيد الدستورية خط أحمر، لكن ماذا عن المناخات السياسية التي تجري فيها هذه الانتخابات؟
في ألف باء العلوم السياسية، فإن الانتخابات التشريعية المتمثلة بانتخاباتِ مجلس ما يمثل الشعب، سواء أَكان في النظام البرلماني أم الجمهوري، فإن هذه العملية هي تتويج للعمل السياسي في هذا البلد، هذا العمل السياسي يستند إلى ثلاثة مفاهيم أساسية تختلف أهميتها حسب المجتمعات التي تتم فيها العملية، ففي المجتمعات الأكثر تقدماً تتلاشى الأيديولوجيات الحزبية وتتقهقر لمصلحة كل من الفكر السياسي غير المؤدلج والعمل السياسي غير المقيد، لكن في الدول التي تبدو فيها التعددية الحزبية الحقيقية ناشئة، فإن الأيديولوجيات الحزبية للأسف تتقدم على الفكر السياسي، أما القيود المفروضة في العمل السياسي فهي تعيق إلى حدٍّ ما تطور العملية السياسية، هذه القيود قد لا تكون بمجملها متعمَّدة من السلطة الحاكمة، قد تكون قيود تفرضها هذه الأحزاب على نفسها للتقرب من السلطة الحاكمة ما يجعلها أحزاب باهتة تهتم بالمشاركة في السلطة أكثر من فكرة تكوين معارضة تراقب عمل السلطة، في هكذا مناخات للأسف تولد لدينا فكرة «المجتمعات المريضة سياسياً»، وستبدأ أسباب المرض بوجود اعتلال في فهم الحقوق والواجبات وألم كبير في العقل الذي لا يستطيع التمييز بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وصولاً إلى التصويت على أسس بعيدة كل البعد عن جوهر العملية الانتخابية، وغيرها الكثير التي لا مكان لذكرها هنا، علماً أن هذا التعبير بالمناسبة لا يعني الإساءة لأي مجتمع على العكس فلمجرد الانطلاق نحو أفكار جديدة في التعاطي مع العملية الانتخابية واكتشاف العلاَّت، هو إنجاز يهدف للوصول إلى العلاجات تحديداً عندما يتصدى لطرح هكذا أفكار أشخاص أبعد ما يكونون عن أي طموح سياسي، هنا من المفترض أن يأتي دور الدولة أولاً عبرَ خلق الآليات اللازمة لتثقيف المواطن السوري سياسياً حتى ولو أضيفت المواد الدستورية المهمة لمناهجنا التعليمية ليفهم الطفل معنى الحقوق والواجبات بعيداً عن التثقيف الديني، وإعطاء الحوارات السياسية عبر الإعلام مزيداً من الزخم، لكن بذات السياق هناك دور للأحزاب السياسية النشطة في بناء هذه الشخصية عندما تقدم مرشحيها للانتخابات، بمعنى آخر كيف ترى الأحزاب النشطة برامجها الانتخابية؟
لنعد بالذاكرة أولاً إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أيار من عام 2021، يومها ظهر للجميع بأن المرشح بشار الأسد يعطي للراغبين في العمل السياسي على اختلاف مشاربهم دروساً في دور المرشح، بدأت من الصور التي روجت لحملتهِ الانتخابية، وصولاً للشعار الذي هو عنوان للبرنامج الانتخابي، هذا الفعل دفع خصومه في الانتخابات للعمل على مجاراتهِ لأبعد حد، سعياً لمحاولة خلق تنافس سياسي شريف لاقى كل الاحترام والتقدير من أي متابع يحب رؤية تنامي التنافسية السياسية في بلده، بالفعل بدت الانتخابات الرئاسية يومها أكثر صخباً واهتماماً من المواطن العادي الذي هو المخَاطَب الأهم في الدعاية السياسية، علماً أن المرشح بشار الأسد كان لا يزال رأس هرم السلطة التنفيذية لكنه تعامل بحرفية مع كل ما يضمنه له الدستور من صلاحيات بما فيها مخاطبة الناخب ببرنامج انتخابي واضح ومحددات تضمن لخصومهِ حقوقاً مماثلة فخرجت الانتخابات بصورة راقية.
لكن للأسف لا يبدو بأن الأحزاب النشطة نجحت حتى الآن بإعطاء هذه الانتخابات الزخم المنتظر، بل يمكننا القول بأن فشلها وصل إلى درجاتٍ مخيفة، ماذا لو سألنا عن البرنامج الانتخابي لحزب البعث العربي الاشتراكي؟ بصراحة لا يوجد، المشكلة بأن الحزب ما زال يلتهم من شعبيته بدلَ السعي لاكتساب المزيد من الشعبية، أما محاولات التجديد التنظيمي فمن الواضح بأنها لم تف بالغرض إلى الحد الذي تطمح إليه الجماهير، فعملية الاستئناس مثلاً أفرزت حالات على قيادة الحزب الوقوف أمامها بتمعنٍ، والنقطة الثانية فإن عملية الاستئناس أثبتت أن الكلام الفصل بالنهاية ليس للقواعد البعثية، وختاماً بدا واضحاً بعدَ ظهور النتائج غياب التثقيف السياسي للناجحين، فهناك من تحدث عن ثقة جماهير المدينة به! هناك من تحدث عن ثقة القيادة به! متى سيصدر تعميماً بمنع استخدام هذا المصطلح الساذج؟ بالمناسبة أنت هنا تتمتع بثقة من صوت لكَ فقط أما من يحالفه الحظ ويصل إلى قبة البرلمان فهو لا يتمتع كما يهلوس البعض، بثقة المواطن السوري بل بثقة من انتخبه فقط لا غير، هذه التفاصيل البسيطة هي من أدبيات العمل السياسي لكن للأسف هناك من يتجاهلها! لكن ماذا عن الأحزاب الأخرى؟
مع صدور قانون الأحزاب الجديد في عام 2011، كان هناك الكثير من الأمنيات بتقدم العملية السياسية والحراك السياسي، لكن ما أفرته التجربة خلال السنوات الماضية أثبتَ بأن نشوء هذه الأحزاب كان أقرب للبريستيج الاجتماعي لا أكثر، هناك أحزاب ناشئة دعت يوماً لوقفات احتجاجية على تدني الوضع المعيشي، وهذا حقهم، لكن اللافت بأن عدد الحاضرين كان مُخجلاً قياساً بدعوة أطلقتها أحزاب، وكانت الشماعة الدائمة لفشل هذه الدعوات إما الحديث عن تهديدات من الأمن، وهنا علينا أن نسأل كيف اجتمع من اجتمع وتحت أنظار الأجهزة الأمنية التي كان لها دور الحماية لا أكثر، أو عدم توفر المواصلات!
خلال الحدث الانتخابي، انتظرت كغيري من هذهِ الأحزاب برامج انتخابية مقنعة بالحد الأدنى، لكننا لم نسمع إلا حديثاً عاماً عن محاربة الفساد، هذهِ العبارة باتت شعبوية لدرجةٍ مقززة للأسف يطلقها حتى بعض الفاسدين أنفسهم والذين تركوا مناصبهم وباتوا يحدثوننا عن تطوير مؤسسات الدولة!
أحد مرشحي هذه الأحزاب أراد استحضار الفكر المقاوم فتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي واستعادة الحقوق! إن ورود هكذا عبارة في برنامج انتخابي هي أشبه بالكارثة وهي تفتح المجال لاكتشاف جهل الكثيرين بمعنى السلطة التشريعية التي هي ليست منصباً سياسياً، أنت هنا لفترة محددة لنقل هموم الناس ومعاناتهم ومراقبة عمل السلطة التنفيذية، أما الملفات الكبرى كالعلاقات الدولية فهي ليست من اختصاصك إلا بما يتعلق بالاتفاقيات الكبرى وتصديق مجلس الشعب عليها عندها فقط تقوم برفع يدك بالتصويت بنعم أو لا.
أخيراً، نصل لفكرة المستقلين، بالتأكيد نشجع كل مرشحٍ مستقل أرادَ خوض المعركة الانتخابية، لكن بذات السياق على البعض أن يستوعب فكرة أن عضوية مجلس الشعب ليست جائزة ترضية، من غير المعقول أن نرى أشخاصاً بصفة مستقلين يتقدمون للترشح بداعي أنهم دافعوا عن بلدهم، الدفاع عن الوطن هو واجب كل حسب استطاعته وكل بما يجيد، لكن هذه المشاركة لا تفرض أبداً امتيازات وإلا لكنا اضطررنا لإدخال أكثر من ثلثي الشعب السوري إلى المجلس! بذات السياق فإن الحصانة الممنوحة هي حصانة تعفيكَ من المحاكمة عن الأحداث المتعلقة بمهامك كعضو في السلطة التشريعية لكنها لا تعفيك من المحاكمة كعضو في شبكة فساد مترابطة! ليصبح السؤال وفقَ هذهِ المعطيات: ما المنتظر من هذهِ الانتخابات؟
حكماً لن تفرز هذه الانتخابات الكثير من التغيرات، لكن هذه الفرضية لا تسوَّغ دعوات البعض لعدم المشاركة بها، شارك واختر ما يناسبك احتراماً للدستور أولاً وأخيراً لأن كل استحقاق دستوري هو لبنة من لبنات جدار منع الدولة من السقوط، وصولاً إلى تحقيق فكرة «التنمية السياسية» التي ننتظرها، وهي قابلة للتحقق لأننا نمتلك كل أدوات تحقيقها، إذا ما أنجزنا مهمة إحداث هذا التمازج بين ما نمتلك من أدوات وبين الرؤية المستقبلية لشكل النظام السياسي في سورية، لأننا فعلياً نمتلك الأرضية الكاملة لبناء حياة سياسية تتحرر بالتدريج من كل هذه العقد.
كاتب سوري مقيم في فرنسا