صناديق الاقتراع والتحولات السياسية والاقتصادية في عام 2024
| د. قحطان السيوفي
إذا كان هناك توصيف يصح إطلاقه على عام 2024، فهو عام الانتخابات بامتياز.
البداية انطلقت في يومه الثاني من جمهورية جزر المارشال وتكون نهايتها في رومانيا في شهره الأخير.
وخلال العام دعي وسيُدعى إلى صناديق الاقتراع ما لا يقل عن 4 مليارات ناخب في 77 بلداً يزيد عدد سكانها على نصف سكان الأرض.
وستشهد الدول التالية؛ الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والهند وباكستان وتايوان وجنوب إفريقيا وإيران وسورية، فضلاً عن الانتخابات الأوروبية التي شهدت وستشهد معارك انتخابية.
الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجرى في تشرين الثاني تستقطب الاهتمام الأكبر، هذه الفورة في عدد الانتخابات وأعداد الناخبين لا تشير أبداً إلى أن الديمقراطية بخير.
مع رسوب أعرق الديمقراطيات في امتحان غزة، بمواقفها المشينة المنحازة إلى حرب الإبادة الجماعية الهمجية التي تشنها إسرائيل وتبريرها لجرائم الحرب الموصوفة التي يرتكبها العالم بأسره، سيكون معنياً بما سيخرج من صناديق الاقتراع.
من هنا تأتي أهمية التوقف عند بعض منها لما لذلك من تبعات مباشرة إن لجهة توتير العلاقات الدولية، أو الدفع باتجاه تسويات وانفراجات في نتائج هذه الانتخابات التي تمت وستتم، في خمس دول نووية، سيكون لها تأثيرها المحتوم على مسار العالم الذي يعاني حربين متواصلتين في غزة وأوكرانيا، ومن التنافس الأميركي الغربي- الصيني في المحيطين الهادي والهندي، ومن صعوبات اقتصادية.
تعد الانتخابات الرئاسية الأميركية أهم استحقاق عام 2024، نظراً إلى تداعياتها الدولية المتعددة، والجدير بالذكر أن الرمز الجمهوري اليوم، دونالد ترامب، الشعبوي المناهض للمؤسسات، قد اتُّخذت ضده إجراءات لعزله مرتين، مع احتمال توجيه تُهم عديدة له أمام القضاء، بالمقابل قدم الحزب الديمقراطي جو بايدن كمرشح رئاسي له، وهو خيار يتعارض مع التقاليد الأميركية المتمثلة في تفضيل المرشحين الأصغر سناً والأكثر تواكباً مع العصر عادة.
الصحفيون الأميركيون مذعورون بعد خروج المرشحَين الرئيسيين في المناظرة الأولى على أبسط قواعد القانون والأعراف ومستوى السلوك الأخلاقي.
وما يسمى النظام الديمقراطي في أسوأ ترهله يعاني خللاً جوهرياً لا يعرف أحد كيف سينعكس على النظام العالمي، ويحمل مراقبون كثر ما يسمى الديمقراطية الأميركية سلوك الإبادة الجماعية الهمجي الذي تمارسه إسرائيل.
فوز بايدن لن يمر بسهولة لأن عامل العمر، والترويج لمعاناة بايدن من بعض الأمراض الذهنية، يفرض غموضاً بشأن مستقبل الرئاسة الأميركية.
والأمر ذاته إذا فاز ترامب بالسلطة مجدداً؛ فإن هناك مخاوف من صدام بين ترامب وبعض مؤسسات الدولة الأميركية ناهيك عن رفض قطاعات شعبية لترامب استناداً إلى فترة رئاسته الأولى.
في الانتخابات البريطانية زعيم حزب المحافظين اعترف بالفشل وبالمسؤولية، وحزب العمال البريطاني عاد للسلطة بعد 14 عاماً، وفي فرنسا فاز بالجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية اليمين المتطرف، وفي الجولة الثانية فاز اليسار، ولكن لم يتمكن حزب واحد أن يفوز بالأغلبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة، كان يفترض أن يؤدّي الاقتراع إلى حل الأزمات التي تتخبط فيها فرنسا، فإذا بها تزداد تعقيداً.
في روسيا فاز الرئيس فلاديمير بوتين بالانتخابات الرئاسية، وسيستمر في نهجه السياسي الحالي وتعزيز تحالفه مع الصين ودول «الفضاء الروسي»، والسعي لبناء تحالفات جديدة مع دول شرق أوروبية وإفريقية، والانخراط في قضايا الشرق الأوسط للحفاظ على تحالفه الحيوي في سورية ودعم القضية الفلسطينية.
وهذا ما سينعكس على مسار الحرب في أوكرانيا، روسيا تواجه بحزم محاولات الهيمنة الأحادية من جانب الولايات المتحدة والغرب، وهذا أكده الرئيس بوتين في أثناء القمة الروسية- الإفريقية الأخيرة عندما أعلن أن عصر «العالم أحادى القطب قد انتهى».
يبدو أن المحاولات الغربية لعزل روسيا أو إضعافها كان لها تأثير كبير في توحيد المواطنين الروس مع وحول رئيسهم بوتين.
وبموجب الإصلاحات الدستورية التي أقرت عام 2020، يحق لبوتين أن يتولى فترتين إضافيتين مدة كل منهما 6 سنوات، أي البقاء بمنصبه حتى عام 2036.
في الهند جرت الانتخابات البرلمانية على مدى أسابيع عدة في شهرَي نيسان وأيار 2024 وأدت لنجاح ناريندرا دامودارداس مودي، واستمرار سياسته الصدامية والتنافسية مع الصين.
في 13 كانون الثاني 2024، أسفرت الانتخابات الرئاسية التي جرت في تايوان، عن فوز نائب الرئيس الحالي لاي تشينغ تي، مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم ومن المتوقع أن يواصل هذا الأخير علاقاته المتوترة مع الصين.
في إيران على إثر مصرع رئيس الجمهورية بحادث طائرة، جرت انتخابات رئاسية فاز بها الإصلاحي مسعود بزشكيان، أما بالنسبة لأوروبا، فتشير استطلاعات الرأي إلى نتائج قوية متوقعة للأحزاب اليمينية المتطرفة في انتخابات عام 2024.
وسيطرح صعود تمثيل اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي تحديات للسياسات الأوروبية، خاصةً تجاه قضايا الهجرة والتكامل الإقليمي، ما يشير إلى أن عام 2024 قد يدفع نحو استمرار مسار الصعود لليمين المتطرف الأوروبي.
أحد أكبر التحديات التي تواجه الحكومات الأوروبية هو العثور على شركاء في الائتلاف لتشكيل الأغلبية، ومن المتوقع أن يواصل اليمين المتطرف اكتساب السلطة في عام 2024.
الانتخابات التي جرت وستجري عام 2024؛ تستدعي عدداً من التداعيات والتأثيرات المحتملة على الاقتصاد العالمي: بالرغم من التأثيرات الواسعة المدى للأزمات والقضايا السياسية في السلوك التصويتي، فإن الأوضاع الاقتصادية ستشكل محدداً مهماً في المشهد الانتخابي العالمي خلال عام 2024.
تسهم الدول التي شهدت وستشهد انتخابات عام 2024 بأكثر من 60 بالمئة من الناتج الاقتصادي العالمي، وهو ما سيؤدي إلى وجود تأثيرات متبادلة بين الأبعاد الاقتصادية والسياسية بالعملية الانتخابية؛ حيث ستمثل القضايا الاقتصادية أولوية بالحملات الانتخابية البرلمانية والرئاسية والمحلية في أي دولة، كما سيحدد الفائز بها سياسات الإعفاءات الضريبية، ونقل التكنولوجيا، وتطوير الذكاء الاصطناعي، وتخفيف الديون، وآليات استخدام الطاقة المتجددة والتقليدية.
إذا فاز ببعض الدول تيار اليمين المتطرف أو الشعبويين فإنهم سيلجؤون إلى تشديد السيطرة على التجارة والاستثمار الأجنبي، وأيضاً تعد الهند التي شهدت انتخابات هذا العام خامس اقتصاد عالمي والأسرع نمواً في العالم.
وفي الولايات المتحدة ثمة احتمال بعودة ترامب إلى البيت الأبيض؛ ما سيعيد الحروب التجارية الصينية الأميركية التي بدأها عام 2018، وفرض المزيد من الرسوم الجمركية على التجارة مع الدول الأوروبية.
كما سيمتد هذا التوتر إلى العلاقات الأميركية الصينية، ومنها التبادل التجاري بينهما، والخلافات الصينية مع دول جنوب شرق آسيا ببحر الصين الجنوبي، وتصاعد التنافس الأميركي الصيني بمنطقة «الهندوباسيفيك».
بالمقابل انتخابات روسيا والولايات المتحدة، لها انعكاسات دولية نظراً لثقل الدولتين وأثرهما البالغ في إعادة تشكيل النظام الدولي، وخاصة في ضوء المخاوف التي أثيرت مؤخراً بشأن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة.
ورغم كل ما يعيشه العالم من أحداث وتطورات تدعو إلى التوجس وحتى الخوف، رغم كل ذلك، تبقى أضواء الأمل تنير صنع التحولات الكبيرة، وهم صناديق الاقتراع، في كل أنحاء العالم، لهم القدرة على صناعة الزمن التالي، مثلما كان في كل حلقات الزمن بكل ما فيها، من نهوض وكبوات، وزمن الأمل له صانعوه.
وزير وسفير سوري سابق