قضايا وآراء

تنمية اقتصاد الخدمات في الدول النامية ودور الحكومات

| د. قحطان السيوفي

كانت الصناعات التحويلية هي الوسيلة المضمونة للاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل للحد من الفقر وخلق فرص عمل جيدة.
غير أن البلدان النامية ما فتئت تعيد توجيه تركيزها باطراد نحو قطاع الخدمات للحاق بنظرائها من البلدان المتقدمة، بالمقابل يرى بعض المحللين الاقتصاديين أن مستقبل البلدان النامية في الاقتصاد القائم على الخدمات.
قد يبدو هذا الرأي غريباً في ضوء حقيقة مفادها أن التصنيع كان الطريق التقليدي إلى النمو والازدهار، وهو الطريق الذي سلكته كل الاقتصادات الغنية اليوم، فضلا عن قصص النجاح الأحدث عهدا مثل كوريا الجنوبية والصين.
في العقود الثلاثة الماضية، شهد قطاع الخدمات معدلات نمو أسرع من قطاع الصناعات التحويلية في العديد من الاقتصادات النامية.
وبحلول عام 2019، أسهم قطاع الخدمات بنسبة 55 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي و45 بالمئة من فرص العمل في الاقتصادات النامية.
وفي الاقتصادات المتقدمة، تسهم الخدمات بنسبة أكبر في النمو الاقتصادي تبلغ 75 في المتوسط.
إن الإبداع في التصنيع اتخذ شكلا يعتمد في المقام الأول على المهارات، وتعمل تكنولوجيات جديدة مثل الأتمتة أي التشغيل الآلي، والروبوتات، والطباعة ثلاثية الأبعاد على استبدال رأس المال المادي بالعمالة مباشرة.
ففي حين تتسم بعض الخدمات، مثل الخدمات المصرفية، وتكنولوجيا المعلومات، وتوظيف مصادر خارجية لتنفيذ العمليات التجارية، بالديناميكية الإنتاجية والقابلية للتداول، فإنها لن تستوعب العمالة لذات السبب الذي يجعل قطاع التصنيع غير قادر على ذلك.
بالمقابل قطاع الخدمات يتيح فرصاً جديدة للتوسع والابتكار ويؤدي إلى آثار غير مباشرة مماثلة من حيث الحجم للآثار التي جعلت الصناعات التحويلية أكثر إنتاجية في الماضي.
ومن شأن تقديم الخدمات من بُعد، والتوسع في إنشاء الفروع، ومنح امتيازات التشغيل أن يُمكّن مقدمي الخدمات من الاستفادة من الأسواق الأكبر، ويشهد قطاع الخدمات زيادة في أنشطة البحث والتطوير تفوق بكثير ما يحدث، في الصناعة، إذ تساعد البيانات الضخمة على تحسين أنظمة النقل، وتحفز منافذ التجزئة على تحسين عروضها.
وتتزايد أيضاً أهمية قطاع الخدمات المفعم بالحيوية فيما يتعلق بتنافسية الصناعات التحويلية، حيث تقوم الشركات المصنعة بالجمع بين السلع والخدمات، مثل الائتمان المالي، والإعلان، والضمانات، ما يزيد من القيمة المقدمة للعملاء.
ولتنمية اقتصاد الخدمات أمام حكومات الدول النامية عدة خيارات إستراتيجية الأولى تركز على الشركات الضخمة، وتحفيز هذه الشركات على التوسع في تشغيل العمالة.
والاستراتيجية الثانية تركز على الشركات الصغيرة، التي تشكل القسم الأعظم من الشركات في البلدان النامية، وتسعى إلى تعزيز قدراتها الإنتاجية من خلال مدخلات عامة.
قد تتمثل هذه المدخلات في التدريب الإداري، أو القروض أو المنح، أو مهارات عمالية مخصصة، أو مساعدة تكنولوجية.
أما الإستراتيجية الثالثة فتعتمد على توفير الأدوات الرقمية أو غيرها من التكنولوجيات الجديدة، بهدف تمكين العمال الأقل تعليماً من القيام ببعض الوظائف التي كانت مخصصة تقليدياً للمهنيين الأكثر مهارة.
الإستراتيجية الرابعة تركز على العمال الأقل تعليماً وتجمع بين التدريب المهني والخدمات الشاملة، وفي السنوات الأخيرة عانى العالم سلسلة من الصدمات، أبرزها جائحة كورونا، والحرب الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة.
والركود المزمن أصبحت فيه التصدعات وخاصة في صرح التعاون العالمي أعمق، كما أصبحت الضغوط على المؤسسات العالمية أعظم، وتدهور الأداء الاقتصادي طويل المدى، وفقاً لمدير عام صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، من جهة أخرى، يجب ألا ننسى الدور الذي قامت به التجارة المفتوحة كمحرك للنمو والوظائف، فازدادت حصة التجارة في إجمالي الناتج المحلي بمقدار النصف.
إن منافع التجارة لم تعم الجميع، ولهذا يجب بذل مزيد من الجهود لضمان الإنصاف في تقاسم المكاسب التي تتأتى منها، كما تتزايد أهمية تكنولوجيا المعلومات والخدمات المهنية والعلمية والفنية، حيث شكلت هذه الأنشطة أكثر من نصف جميع صادرات الخدمات في غانا والهند وباكستان والفلبين، وهي جميعها بلدان تتيح مجموعة من الأيدي العاملة المنخفضة الأجور نسبياً، واليوم، يوجد نحو 68 بالمئة من جميع أصحاب العمل الحر عبر الإنترنت على مستوى العالم في بلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
بالمقابل رغم أن قطاع الخدمات، قطاع حديث النشأة، إلا أنه يُعد رافداً اقتصادياً ذا أهمية لنمو الناتج المحلي للدول، والمساهمة في تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي لمختلف اقتصادات العالم بما في ذلك الدول النامية، لإسهامه في زيادة فرص التشغيل، وانخفاض معدل البطالة ورفع معدلات الاستثمار.
ولارتباط قطاع الخدمات بالوضع السياسي والأمني في الدول النامية، تأثر القطاع بالعديد من الأزمات الاقتصادية العالمية خلال السنوات الماضية، لكنه تجاوزها وتعافى من تداعياتها.
وفي ضوء ما تشهده اقتصادات العالم المتباينة من تداعيات عقب انتشار كوفيد19، تباينت درجة التأثيرات السلبية على قطاع الخدمات؛ فكان أكثرها تأثراً خدمات السياحة والنقل.
في هذا المجال نقدم عدداً من الأفكار والمقترحات لحكومات الدول النامية أولها التوسع في تجارة الخدمات، وتشجيع اعتماد التكنولوجيا، وتدريب العاملين للارتقاء بمستواهم المهاري، وتوجيه الخدمات التي توفر المنافع إلى الاقتصاد الأوسع نطاقاً.
ثانيها يجب أن ينعكس التقدم المُحرز في تجارة السلع للقيام بمزيد في تجارة الخدمات، وتوسيع نطاق التجارة الرقمية كما يجب أن تركز سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار بدرجة أكبر على الخدمات.
وتتوسع التكنولوجيات الرقمية في إمكانية تقديم الخدمات بدرجة أكبر مما هي عليه بالنسبة لقطاعي الصناعات التحويلية والزراعة.
ثالثها يشكل تدعيم مهارات العاملين عاملاً أساسياً لتمكين الناس من الحصول على وظائف أكثر إنتاجية بأجور أفضل.
وفي البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، يتركز خلق الوظائف في العادة في الأعمال ذات المهارات المحدودة وأخيراً، يجب على الحكومات إعطاء الأولوية لجمع بيانات أفضل للخدمات للتمكين من إجراء تحليل دقيق.
ختاماً ساهم قطاع الخدمات خلال العقود الماضية؛ في تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي لمختلف أنماط اقتصادات دول العالم بما في ذلك الدول النامية، وإن بمقدور حكومات هذه الدول أن تنجح، لكن ذلك مرهون بقيامها بتوسيع نطاق التجارة في الخدمات، وتسريع وتيرة اعتماد التكنولوجيات الجديدة، وتحديث مهارات قوتها العاملة، وإيلاء اهتمام خاص للخدمات التي يمكنها أيضاً تعزيز الصناعات التحويلية وبما يحقق تنمية اقتصاد الخدمات في الدول النامية.

وزير وسفير سوري سابق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن