عودة الهدوء الحذر إلى الشرق
| عبد المنعم علي عيسى
لم يكن التصعيد الذي بدأته قوات من العشائر السورية في أرياف دير الزور الشرقية يوم الـ7 من آب الجاري جديداً، فالحال إياه سبق لتلك المناطق أن شهدته شهر أيلول من العام المنصرم، وعلى الرغم من أن كلتا الحالتين كانتا متشابهتين في الظروف وفي المسار الذي ذهبتا إليه، إلا أن الثانية كانت تتمايز عن الأولى في بعض ملامحها ومخرجاتها، من حيث إنها شهدت تدخلاً مباشراً، بعد أن كان الإسناد هو السائد في المرة الأولى، من قوات «التحالف الدولي» التي دفعت بتعزيزات غير مسبوقة بذريعة حماية قواعدها في حقلي «العمر» و«كونوكو» وضماناً لعدم تمدد النار إليهما كما قال المتحدث باسم تلك القوات، وكذا من حيث إن «قوات سورية الديمقراطية- قسد»، وفقاً لمصادر قريبة منها، قد ارتأت في الأمر «بعض الإيجابية» التي تحققت عبر «إعادة التواصل التقني على الأقل مع دمشق وموسكو»، بعد فتور دام لأكثر من شهرين تبعاً لما قالته تلك المصادر، كأن بتلك الرؤيا تريد القول: إن «السكون» سلبي على الدوام، وأن نقيضه قد يأتي ببعض الإيجابية حتى ولو شابه بعض التصعيد الذي لا ضير منه في بعض الأحيان.
بعد نحو أسبوعين على التصعيد الأخير الذي شمل مناطق وقرى واسعة في ريف دير الزور الشرقي عاد الهدوء النسبي إلى تلك المناطق، لكن مع تأكيد لـ«جيش العشائر» بأن ما جرى ليس إلا جولة من جولات الصراع التي لن تنتهي إلا «بطرد «قسد» من كامل المنطقة» وفقاً لبيان العشائر الذي تلاه الشيخ إبراهيم الهفل، وفي حيثياته وصف البيان ما جرى بأنه «فعل مقاومة في وجه ممارسات «قسد» بحق الأهالي، وخاصة تدمير المنازل»، والشاهد هو أن «قسد» قامت بنسف عشرات المنازل التي تعود ملكيتها إلى عناصر شاركوا في القتال أو أنهم متعاطفون معها، وفقاً لما يثبته بيان العشائر، وكذا عشرات الفيديوهات المصورة، وتلك سياسة لا يصح توصيفها بقصر النظر فحسب، بل إنها لن تؤسس سوى لحال من الاحتقان الذي لا بد له من أن يجد متنفساً له بتغير الظروف، وفي الحسابات، التي يجب ألا تغيب، أن عوامل قوة متغيرة، وهي لا تبقى على حالها، وما تستشعره «قسد» من «فائض قوة» في مواجهة العشائر بفعل الدعم والإسناد الأميركيين أمر قد لا يطول أمده، وأن انسحاباً مفترضاً، لكنه واقعي، لنحو ألف جندي أميركي من الشرق سوف يعني تلقائياً انكشاف ظهرها والعودة بموازين القوى إلى طبيعتها الحقيقية.
في أعقاب التصعيد الحاصل ما بين «جيش العشائر» وقوات «قسد» شهر أيلول المنصرم أصدر «معهد واشنطن للدراسات» أواخر العام 2023 دراسة مطولة حول أسباب ذلك الفعل واحتمالات تجدده جاء فيها: «يمكن القول إن استياء المكونات المحلية وحكم القوات الكردية واستحواذها على الموارد هي من بين الأسباب الأساسية لاندلاع تلك الأحداث»، وتضيف الدراسة: إن «الغضب والاستياء سيظلان عاملين محفزين لتجدد التصعيد على الدوام»، والشاهد هو أن تلك الأحداث قد تجددت قبيل أن تتم جولتها الأولى عاماً على انقضائها، والمؤكد هو أن الجولتين لن تكونا الأخيرتين طالما ظل واقع الحال يشير إلى ما يشير إليه، لكن الراجح هو أن القادم منها قد لا يشكل استنساخاً لما سبق، فظروف الجولتين كانت خادمة بشكل ما لـ«قسد»، خصوصاً الثانية التي جرت في ظل تصعيد عام تشهده المنطقة برمتها، وفيها وجدت الولايات المتحدة أن «تثقيل» كفة «قسد» أمر لا مناص منه الآن انطلاقاً من الاستهداف المتكرر لقواعدها في المنطقة، وذاك الذي يمكن لهذه الأخيرة أن تشهده إذا ما اقتضت التطورات ارتفاع ألسنة اللهب.
في الإطار العام، تبدو السياسات «التشنجية»، التي تكاد تكون السمة العامة التي تطغى على ممارسات «قسد» ومن ورائها «الإدارة الذاتية» في كل المنعطفات والاختناقات التي مر بها المشروع خلال سنينه التي قاربت العشر، وكأنها نتيجة طبيعية لاستحالة قيام تلك التركيبة بخطوتين متتاليتين نحو الأمام، فكل خطوة في ذلك الاتجاه كانت تليها نظيرة لها نحو الخلف، والمؤكد أن مساراً كهذا يبدو مبرراً انطلاقاً من «الوظيفية» التي قامت عليها «مشروعية» المشروع، بمعنى أن كل الخطوات، أو على الأقل الأساسية منها، كانت تأتي على وقع احتياج الخارج بالدرجة الأولى وليس انعكاساً لحقائق الواقع أو متطلباته، وما يجب على «المشروع» أخذه بعين الاعتبار أن «نغمة» محاربة «تنظيم الدولة الإسلامية» والبناء عليها قد باتت من الماضي في ظل اللهيب الذي استولده «طوفان الأقصى» على امتداد المنطقة، ولن يطول الوقت كثيراً حتى يعلن الأميركيون «الكفر» بها، وما سيبحث عنه هؤلاء الأخيرون هو الاستقرار الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال لـ«قسد» أن تكون «لبنة» في جداراته، بل على العكس من ذلك، لا بد أن يوقنوا، في سياق بحثهم ذاك، أن «المشروع» برمته مدعاة لتناحر داخلي إقليمي وذو تكاليف باهظة الثمن، وفي عرف البراغماتية الأميركية توضع الخيارات في ميزان، كُتب على كفته الأولى «المكاسب» وعلى الثانية «الخسائر»، ثم تحرر الكفتان ليجيء القرار مطابقاً لـ«قرار الميزان»، ألم نشهد ذلك في أفغانستان؟ ألا توحي جولات التفاوض ما بين الأميركيين والعراقيين بإمكان تكرار الحالة السابقة؟ ثم أي معنى للوجود الأميركي في سورية إذا ما شهد العراق تكراراً لسيناريو أفغانستان آب 2021؟
كاتب سوري