الأغنية صورة حالمة أم لوحة واقعية؟ بين الشاعرية والواقعية ضاعت معالم الأغنية العربية
| إسماعيل مروة
قبل خمسين عاماً من اليوم ويزيد رسم الشاعر الغنائي الكبير حسين السيد لوحة شعرية آسرة، وبسبب الحبل السري الذي يربطه بمحمد عبد الوهاب الموسيقار الكبير، قام عبد الوهاب بصياغة لحن أكثر جمالية، ويكاد يكون موسيقا تصويرية لقصة حب مختلفة، وكانت قصيدة (فاتت جنبنا) والمستمع والمشاهد يتابعان الحكاية والموسيقا التصويرية المعبرة لقصة حب نادرة، وكثيرة الحصول، حين يظن المحب أنه المقصود أو غير المقصود، ليختم عبد الحليم هذه الرائعة بشعر حسين السيد: وقالتلي أنا من الأول بضحكلك يا أسمراني.. جاني الرد جاني.. وحين سمع الجمهور هذه الأغنية أعجب بها أيّما إعجاب، وانتقد عبد الوهاب يومها كثيراً لأنه أقدم على تلحينها، ومنهم من قال: كيف يلحن عبد الوهاب قصيدة تعبر عن لحظة من الحب المراهق؟ ووصفت يومها بأنها تنقل قصة مبتذلة لمعاكسات الشباب والبنات.. لكن الأغنية نجحت بكل المعايير، وكانت تعبيراً راقياً وناعماً عن هواجس الحب عند الشاب الذي يعيش حالة وجدانية بين الشك واليقين، إلى أن يدرك أنه المعني بالحب من هذه الصبية التي كتبت بها الأغنية.. ومتابعة القصيدة تظهر ذلك الشغف الراقي والحياء اللذين يحكمان أي مصادفة للقاء بين المتحابين، ويرصد مظاهر الشك في المشاعر، ودون أن ينحطّ المستوى لأي أمر مادي.. والسيد في مجمل قصائده المغناة أو التي لم تجد طريقها للغناء يتمتع بخاصية الملامسة الناعمة للمشاعر المتأججة (لأ مش أنا اللي أبكي) وغيرها من الروائع.. وفي المرحلة نفسها كانت روائع رامي وعبد الفتاح مصطفى ومحمد حمزة وصباح فخري ونجاح سلام وفيروز وصباح ووديع الصافي ورفيق شكري وعمر حلبي وسهيل عرفة وعيسى أيوب، والتي استمرت حتى تسعينيات القرن العشرين، وكلها كانت ملامسات وجدانية لمشاعر الحب الكبيرة التي تكتفي بالصورة وتترك لك عنان الخيال.
الإيحاءات والدلالات والشعرية
(غمرني غمرتين وشدّ شوفو الكذب لوين) (حوّل يا غنام حوّل) (رميت الورد طفيت الشمع) (يا ترى ياواحشني بتفكر في مين) (خمرة الحب اسقنيها) والقائمة تطول وتطول..
تلك قصائد فصيحة أو زجلية، مواويل أو عتابا، موشح أو قدّ، صوفي أو غزلي، من الجندي إلى عمر البطش، إلى محمد خيري وصباح فخري وشادي جميل، قصائد حملت أسمى المعاني والتوريات والصور، لأن شعراءها تميزوا بالأصالة والشعرية، وللصورة الشعرية أصولها وألفاظها، إلى درجة أن النقاد أنكروا على بعض الشعراء استعمالهم كلمات غير شعرية مثل المغناطيس والكهرباء، فانتقدوا الرافعي لأنه قال (كهربة الحب وسيّالها) وانتقدوا فريد الأطرش لأنه غنى (في مغناطيس بطلعتك) وفي الوقت نفسه انتقدوا طقاطيق منيرة المهدية، وأغنيات أم كلثوم الأولى، وكل أغنيات الرعيل الذي بدأ به القرن العشرون، لأن تلك الأغنيات كانت ابنة المرابع الليلية، ومع مجيء الإذاعة ووصول شروطها إلى الكلمة واللحن، ارتقت في كل البلدان، وكانت موجة رامي وشفيق كامل وشوقي وحسين السيد ومحمد حمزة ومرسي جميل عزيز وغيرهم، وموجة محمد خيري وصباح فخري ومها الجابري وما كان من نتاجهم، ومع موجة الرحابنة ووديع الصافي ونصري شمس الدين وصولاً إلى ملحم بركات وإيلي شويري، وتيار الأغنية الملتزمة الراقية مع ماجدة الرومي وأميمة خليل وجوليا بطرس ومروان محفوظ وسمير يزبك وغيرهم..
دور الإذاعة في الرقي
الإذاعة أسهمت ودون أدنى شك في رفع مستوى الكلمات والألحان، ولا تزال الإذاعة تؤدي هذا الدور في النصوص التي تعرض عليها، وذلك من عدة نواحٍ تتعلق بالكلمات ومناسبتها للإذاعة والجمهور، ونعرف الكثير من الأغنيات التي منعت إذاعتها لأن فيها كلمة لا تروق للعامة، وهذه الأغنيات لكبار الشعراء مثل مأمون الشناوي وغيره، وتقف اللجان عند شعرية الكلمات وأوزانها، وكلماتها ورقيها، وتقف عند اللحن، لذلك نجد أغنية قديمة لفريد الأطرش (حفوت عليك بعد نص الليل لما تنامي) لا تجد طريقها إلى الإذاعة، ولا تعرفها الشريحة الكبرى من الجمهور والذواقة، بل من محبي فريد الأطرش أيضاً، ومع أن كثيرين يستنكرون هذا المنع مع قامات كبيرة، إلا أن المنع مسوّغ، ولم يتم أي تهاون فيه..
الابتعاد عن غير اللائق
أكثر من خمسين عاماً مضت على مرحلة القصائد الفصيحة والعامية التي ارتقت بالذائقة في الغناء العاطفي والوطني، والتي أخذت حدوداً صارمة تناسب الإذاعة، وأدب الخطاب، وشاعر عظيم بمستوى المبدع صلاح جاهين لم ينج من النقد والمنع في أغنية وطنية قالها في رحيل الملك فاروق، لأنها تجاوزت أدب الخطاب، (يا عديم الاشتراكية منطلبك كده هو).. لم تغفر له حمية الثورة، وللحق فإن سماع الأغنية بهدوء يعزز الانتقاد، ويظهر دون أدنى شك أو عناء أن هذه القصيدة دون مستوى الأغنية الوطنية، ودون مستوى إبداع جاهين نفسه..
أغنية الواقع
اليوم حلت وسائل التواصل مكان الإذاعة، وكل واحد وزير إعلام، وكل واحد يملك وسيلته، وكل واحد يمكن أن يصبح فناناً، وتأثر الجيل الحالي ابتداء من تسعينيات القرن العشرين بالأغنيات الغربية المترجمة التي تتحدث كلاماً عادياً، فصرنا نسمع أغنياتنا بلا وزن ولا صورة، والأغنية الغربية تتناول الحياة العادية كما هي: فصرنا نجد أغنياتنا تحمل السمة نفسها، فالتغزل الممجوج المرفوض، والألفاظ التي تصل حدّ الإباحية، والصور التي تهين المتحابين الرجل والمرأة معاً، فتتحدث عن التفاصيل الحميمة، وبألفاظ سوقية مثل قدام وورا، وتشبيه الجمال بالألغام ووو.. هل كانت هذه الأعوام لإنهاء الشعر والأغنية بصورة نهائية، مع أننا نجد تفاعلاً من الجيل الجديد مع قصائد فصحى وراقية؟ أين العلة في حسين السيد أم الألغام قدام وورا؟