ثقافة وفن

دور الجامعات في تطبيق «ميثاق المستقبل» … أكَّد الميثاق على التسامح والتنوع ومكافحة التمييز وشدَّد على ضرورة الحوار بين الثقافات والأديان من أجل التماسك الاجتماعي

| الدكتور وائل معـــلا

أصدرت قمة المستقبل في شهر أيلول الماضي «ميثاق المستقبل»، وهو تذكير بالتزام الأمم المتحدة وإلحاحها لتحقيق الأهداف العالمية للتنمية المستدامة بحلول عام 2030 والتصدي للتحديات الجديدة التي تواجه ذلك. ولسوء الحظ، لم يأت الميثاق صراحةً على ذكر دور مؤسسات التعليم العالي في هذا السياق. ومع ذلك، فدورها كبير ومسؤولياتها عظيمة، ومساهماتها يجب أن تكون واضحة لتعزيز طموحات الميثاق لمواجهة التحديات المستقبلية وتحسين الجهود لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

إن «ميثاق المستقبل» هو وثيقة حكومية دولية تم التفاوض عليها، تتضمن برامج عمل تطبيقية، ويكملها «الميثاق الرقمي العالمي» Global Digital Compact و«الإعلان بشأن الأجيال القادمة» Declaration on Future Generations. بعض مواد الميثاق ذات صلة خاصة بمؤسسات التعليم العالي، وهي تتناول تشجيع التنوع وزيادة التماسك الاجتماعي، والربط بين التدويل والتنمية المستدامة، والحد من عدم المساواة، والتشجيع على المزيد من الشراكات.

الحوار بين الثقافات والأديان

أكَّد الميثاق على التسامح والتنوع ومكافحة التمييز وشدَّد على ضرورة الحوار بين الثقافات والأديان من أجل التماسك الاجتماعي. في عالمنا اليوم، تعد الفصول الدراسية الجامعية بلا شك مساحة للتمازج والتقارب بين الثقافات والأديان. من هنا نستطيع القول إن تركيز الميثاق على هذه النقطة تحديداً يتماشى مع رؤية تدويل التعليم العالي internationalisation التي تعتمدها جامعات عدة في أنحاء العالم، إذ تدعو إلى تسهيل وتعزيز التدويل للجميع، حيث يتم تمثيل جميع الأصوات المختلفة للأمم والشعوب والثقافات في العالم والاستماع إليها على قدم المساواة، مما يسمح بنمو حس المواطنة والمسؤولية العالمية لدى الطلاب، ويعزز التعاون في البحث العلمي لمواجهة التحديات الأكثر إلحاحًا على المستوى العالمي، ويمكِّن من تبادل الخبرات لإيجاد حلول للمشاكل المحلية وإفادة المجتمعات المحلية، والصالح العام العالمي على حد سواء.

من هذا المنطلق، لا بد لمؤسسات التعليم العالي بشكل عام من تعزيز رسالتها في التنوع والإنصاف والشمولية، ومواصلة القيام بذلك بالحوار والتعاون بدلاً من التنافس. إن التعليم العالي يشكل ضرورة أساسية لفهم العدد الكبير من الهويات الثقافية والعقائدية في العالم، ولابد من منح الأفراد منصة لمناقشة واستكشاف أوجه التشابه والاختلاف.

تشجيع حراكية الكفاءات ومنع هجرة الأدمغة

شكّل موضوع حراكية الكفاءات وهجرة الأدمغة تحدياً كبيراً للعديد من الدول، ولاسيما تلك التي تعاني نقصاً في الكفاءات والموارد. وقد ألقى «ميثاق المستقبل» الضوء على أهمية هذا الموضوع ودعا إلى إيجاد حلول مستدامة له؛ إذ جاء في الميثاق: «تشجيع حراكية الكفاءات وتبادلها، بما في ذلك من خلال البرامج التعليمية، ودعم البلدان النامية للاحتفاظ بالكفاءات فيها ومنع هجرة الأدمغة منها، مع توفير التعليم والعمل المناسبين والفرص المتاحة للقوى العاملة».

تسهم الجامعات مساهمة كبيرة في عملية حراكية الكفاءات. ويجب على مؤسسات التعليم العالي أن تعمل على تعزيز التنقل المتوازن للطلاب، الأمر الذي يكافح هجرة الأدمغة ويعكسها.

يمكن من حيث المبدأ الحفاظ على الكفاءات والحد من هجرة الأدمغة من خلال تهيئة بيئة عمل جاذبة في مؤسسات التعليم العالي بتقديم حوافز مالية ومعنوية تنافسية لأعضاء هيئة التدريس والموظفين، والفنيين، بما في ذلك إتاحة فرص التطوير المهني والترقية، وتوفير بيئة حديثة مجهزة بأحدث التقنيات، وبناء ثقافة مؤسسية تحفز على الإبداع والابتكار وتقدّر الموظفين وتعزز انتماءهم لبيئة العمل. كذلك يمكن الحفاظ على الكفاءات والحد من هجرة الأدمغة في بيئة التعليم العالي بالاستثمار في البحث والتطوير، وتخصيص موارد كافية لدعم المشاريع البحثية، وبناء جسور بين الجامعات والقطاع الخاص، وتشجيع نقل التكنولوجيا، وتحفيز الباحثين على الابتكار وعلى تسجيل براءات الاختراع، وتطوير برامج تبادل الخبرات مع الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية، وبرامج دعم الطلاب الموهوبين لتشجيعهم على مواصلة دراساتهم العليا والبحث العلمي، وتعزيز التعاون الدولي ببناء الشراكات مع الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية، والمساهمة في المشاريع البحثية المشتركة لتوسيع آفاق الباحثين وتبادل الخبرات؛ وتسهيل إجراءات عمل الباحثين الأجانب الراغبين في العمل في الجامعات المحلية.

عكس أوجه عدم المساواة وتعزيز الشراكات

لا شك في أن هناك حاجة ماسة لعكس اتجاه التفاوتات الآخذة في الاتساع داخل البلدان وفيما بينها، وهو تفاوت يؤثر سلباً في التنمية المستدامة ويحرم الكثيرين من فرص العيش الكريم. إن دور مؤسسات التعليم العالي في هذا السياق بالغ الأهمية؛ فهي تمثل حجر الزاوية في بناء مجتمعات أكثر عدالة ومساواة. ويمكن تحقيق ذلك بتوفير فرص تعليمية منصفة (كتقديم منح دراسية للطلاب المتميزين من خلفيات اقتصادية واجتماعية مختلفة لتمكينهم من الحصول على التعليم العالي)؛ وتطوير برامج تعليمية ذات صلة بسوق العمل؛ وتوجيه البحوث العلمية نحو معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المجتمعات؛ وبناء قدرات المجتمع المحلي؛ وتعزيز القيم والمبادئ الإنسانية. ومما لاشك فيه أن تحقيق ذلك يتطلَّب من مؤسسات التعليم العالي توفير بيئة تعليمية شاملة تضمن العدالة بين جميع الطلاب وتشجّع التنوع؛ وتطوير مناهجها الدراسية وتحديثها لتشمل هذه القضايا إضافة إلى التنمية المستدامة. كما يتطلب منها بناء شراكات مع المجتمع وتعزيز التعاون مع المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية، والاستفادة من هذه الشركات لتوسيع نطاق التأثير. ولا يُخفى أهمية أن تلعب مؤسسات التعليم العالي دوراً قيادياً في المجتمع من خلال المشاركة في الحوار الوطني لبحث مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية.

تنبّه «ميثاق المستقبل» إلى هذه الأمور، وشدّد على ضرورة تعميق الشراكات مع أصحاب المصلحة المعنيين لضمان قدرة العلم والتكنولوجيا والابتكار على تعزيز التنمية الشاملة والعادلة والحد من عدم المساواة في جميع أنحاء العالم. وقد اكتسبت مؤسسات التعليم العالي مكانتها في هذه الدائرة، بدءاً من الأبحاث العلمية التي تجريها وحتى المشاريع التي تعمل عليها والتي لها نتائج ملموسة لمجتمعاتنا.

الخلاصــــة

وفي عالم سريع التغير، من الضروري الحفاظ على التوجه نحو التنمية المستدامة. إن الاقتراب من تحقيق الأهداف العالمية للتنمية المستدامة سوف يتطلب بذل المزيد من الجهود من جميع أصحاب المصلحة على كل المستويات، من الأمم المتحدة إلى المجتمعات والأفراد، لكنه يتطلب أيضاً تجديد الشراكات. لذا فإن تحقيق ما يهمنا مما ورد في «ميثاق المستقبل» يفترض من الجامعات مضاعفة جهودها، ولاسيما في ظل مقتضيات الحاجة الملحة لبناء بيئة موائمة لسد النقص الكبير في الكوادر البشرية المؤهلة والحد من هجرة الكفاءات. والمأمول أن يكون السير في الاتجاهات المشار إليها حافزاً لتطوير الرؤى والأولويات، وتكييف المناهج والممارسات مع تلك الرؤى.

إن العمل على تطوير البيئة العلمية والبحثية في مؤسسات التعليم العالي، وتحسين بيئة العمل الوظيفية فيها، وتعزيز انتشارها وشراكاتها المجتمعية في خدمة تحقيق أهداف العدالة والتنمية المستدامة، له انعكاسات إيجابية كبيرة ليس فقط على الحد من هجرة الكفاءات، بل أثره أعمق في تعزيز مفهوم الهوية والانتماء الوطني الذي هو أساس التمسك بالأوطان والحفاظ عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن