عن بريكس.. فكرٌ يزهر وفكرٌ يذوي
| عبد المؤمن الحسن
يقف العالم بدوله وسكانِه بين مشهدين يبرزان حالياً، ويتنازعانِ كل الآراء والنقاشات والأنباءِ الواردة، ففي الوقت ذاته الذي تستمر وتزدادُ إجراماً وعنفاً ضرباتُ الكيان الصهيوني المتلاحقة لكلّ الدولِ المحيطة به جغرافياً في لبنانَ وسورية وقبلَها في قطاع غزة، أو لغيرِ الملاصقة لحدوده في كلٍّ من اليمن والعراق، بحجة الحفاظ على أمنِ الكيان المُصطنع، تبزغ في الشمال وتحديداً في مدينة قازانَ الروسية عاصمةِ جمهورية تترستان بارقةُ أمل بمستقبلٍ عالمي أفضل وصورةٍ مغايرة تماماً.
في قازان الوادعة، يجتمع ممثلو 36 دولة من مختلفِ قارات المعمورة في قمةِ بريكس الـ16 والتي تترأسُها روسيا، وتنعقد مع تحديثاتِ المجموعة الجديدة التي حولتها من بريكس إلى «بريكس بلس»، ففي عام 2006 وكجزءٍ من منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي اتفقت أربع دول هي البرازيل وروسيا والهند والصين على إنشاءِ مجموعةٍ أطلقوا عليها «بريك» باستخدامِ الحرفِ الأول من اسم كلِّ دولة، بأهدافٍ هي التعاون المشتركُ في مجالاتِ الاقتصاد والسياسة والأمن، فضلا عن التنميةِ الإنسانية، كما حددت أبرزَ مهام دول المجموعة بالتغلبِ على الأزمات المالية والاقتصادية الناشئة وتحسينِ مستوى معيشة سكانِ بلدان المجموعة والانتقالِ من الاعتماد على الموادِّ الخام إلى إنتاجِ التكنولوجيا الفائقة.
في عام 2010 انضمت جنوبُ إفريقيا إلى الدولِ الأربع، كدلالةٍ على تخطي أهدافِ المجموعة للحدودِ الجغرافية، ليصبحَ اسمها «بريكس».
استمرت المجموعة بالعمل على منظومتِها وتحقيقِ أهدافها مع كلِّ المنافسةِ والضغوطات من التجمعات الاقتصادية الكبرى المُتشحة بلبوسٍ سياسي والمُهيمنة على مقدراتِ العالم كمجموعةِ الدول الصناعيةِ السبع G7 ومجموعة العشرين G20.
عامَ 2015، أنشأت دول بريكس «بنكَ التنمية الجديد» لإقراضِ الأموال للدول والحكوماتِ بهدف التنمية، في نقلةٍ نوعية وحركةٍ وصفت بأنها أول مسمار يُدقُّ في نعش النظامِ الماليّ العالمي الجائر، وبحلول عام 2023 بلغ إجماليُّ القروض التي قدمها هذا البنك نحو 32 مليار دولار للدولِ الناشئة لإنشاءِ مشاريعَ جديدةٍ للطرق والجسور والسكك الحديدية وخدمات البنى التحتية.
وجاءت المرحلة الثالثة من توسعةِ المجموعة لتنضمَّ كلٌّ من مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة عام 2024، ولتحمل اسم «بريكس بلس» وبالتالي وبالحساباتِ الواقعية بلغ عددُ سكانِ دول المجموعة بعد توسعتِها نحو 3.5 مليارات نسمة، أي نحو 45 بالمئة من سكان العالم، كما بلغت قيمةُ اقتصاداتِها مجتمعة أكثر من 28.5 تريليون دولار، أي نحو 28 بالمئة من الاقتصاد العالمي، وفي تفصيلٍ يتعلق بأهم عنصر من عناصرِ الاقتصاد الكلاسيكي، تمتلكُ دولُ «بريكس بلس» نحو 45 بالمئة من احتياطاتِ النفط الخام في العالم، كما تنتجُ هذه الدول ما يصل إلى 30 بالمئة من الناتج المحليِّ الإجمالي العالمي وتحتفظ بأكثرَ من 17 بالمئة من احتياطي الذهب العالمي.
ونظراً للنمو المستمر لتأثير «بريكس» على المسرح العالمي، أعربت عديدُ من الدولِ عن رغبتها بالانضمام للمجموعةِ وهي تركيا، وبيلاروسيا والبحرين وفيتنام وهندوراس وفنزويلا وزيمبابوي وإندونيسيا والجزائر وأذربيجان وبوليفيا وبنغلاديش، وكذلك كوبا والكويت وكازاخستان والمغرب ونيكاراغوا ونيجيريا وباكستان وغينيا الاستوائية، وأيضاً السنغال وسورية وأوغندا وتشاد وسريلانكا وإريتريا وجنوب السودان.
تمهيداً لقمة «بريكس بلس» 2024 في قازان الروسية عقد الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين لقاء صحفياً مع عدد من كبار القنواتِ التلفزيونية والوكالات الإعلامية الكبرى في دولِ المجموعة، وكان لافتاً ما قاله الرئيسُ الروسي حول أفكار روسيا لتطوير المجموعة وتحديثِ دورها العالمي خاصةً مع تحول الصراع إلى مباشر مع بقيةِ المنظوماتِ الاقتصادية والسياسية عبر الحروب في العالم إن كان في أوكرانيا أو في فلسطين المحتلة ولبنان.
فقد وصفَ الزعيمُ الروسي العلاقة بين دولِ المجموعة بالتعاونِ البناء والمثمر المبني على القيمِ المشتركة وميزاتِ كل دولة وتاريخِها واحترام دول المجموعة لبعضِها، مؤكداً أن المجموعة لم تنشأ ضدَّ أي اتحاد أو مجموعة وإنما لمصلحةِ دول العالم بالمجمل وبناءً على الشرعيةِ الدولية وقواعدِ الأمم المتحدة التي يتم إهمالها وخرقها عندما تتعارض مع مصالحِ الولايات المتحدة.
كما أكد الرئيسُ الروسي أن المجموعة تساعدُ على صياغةِ مراكزَ جديدةٍ للتطور في العالم، مبشراً بنمو اقتصادي كبير لأغلبِ دولِ المجموعة سيترافقُ مع نموِّ طبيعي ومؤكد لنفوذِ هذه الدول في العالم، ما يجعلُ حفاظَ الإنسانية على وجودها من دونِ مجموعة بريكس أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكُن مستحيلاً.
لا شك أن كل ما سبق يعنينا ويعني دولنا واقتصاداتِنا التي تعاني ما تعانيهِ من عقوبات أميركية وحصار واستغلالٍ وعدوان إسرائيلي متكرر تحت عباءةِ واشنطن وحمايتها، وبالتالي فإننا يجبُ أن ننظر بإيجابية إلى هذه المجموعة ونتعاطى مع ظهورِها وتطورِها على أنه مصلحةٌ إستراتيجية لنا، لكننا وكعادتِنا نرغبُ دائماً في أن نضيفَ إلى معايير تقييمِها معيارَنا الخاص والمتعلق بموقفِ المجموعة من قضايانا المصيرية، وهنا يبرز موقف أهم دول المجموعة وعلى رأسها روسيا سواءٌ بالقرارات أم بالتصريحاتِ من القضية السوريةِ منذ بدءِ الحرب عليها عام 2011، وأيضاً موقفُ المجموعة من القضية الفلسطينية التي كانت وما تزال قضيتنا المركزية، لذلك تأتي تصريحاتُ الزعيمِ الروسي التي تؤكد ضرورةَ تطبيقِ قراراتِ مجلس الأمن بشأن حل الدولتين وإقامةِ دولة فلسطينية بكاملِ مقوماتِها وحقوقها، مع إدانة الرئيس بوتين لدورِ الولايات المتحدة المتواطئ والمتحيز والذي أجهضَ الرباعيةَ الدولية ليتفردَ بحل القضيةِ الفلسطينيةِ بما يتوافقُ مع السردية والمصالحِ الصهيونية، إضافة إلى إدانتهِ المتكررة لما يرتكبُه الكيانُ الصهيوني من جرائمَ بحقّ لبنان والشعب الفلسطيني أو من اعتداءاتٍ على الأراضي السورية بذرائعَ مختلفة، تأتي كلُّها لتمنحَ دولَ الجنوب كما اصطُلح على تسميتها ومنها سورية، المبررَ الجليَّ للإيمان بهذه المجموعةِ والانضمامِ إليها.
كما تشي تصريحاتُ الرئيس الروسي بأهداف ورؤى المجموعة التي تعملُ على تغيير بوصلةِ الأحداث وخريطة القوى السياسية التي سيطرت على العالم خلالَ العقودِ الأخيرة، وبمحاولتِها الدؤوبة عبر الحربِ الناعمة ضمنَ منظومةِ القوانين والشرائع الدولية ومؤسساتِ المجتمع الدولي الملتبسة، على إثبات كمِّ المشكلات والإخفاقاتِ التي مُنيت بها السياساتُ الدولية في معظمِ الملفاتِ والقضايا المصيريةِ في العالم لكونها خضعت دونَ أي مساءلة للمصالحِ الأميركية وتابعتِها المغلوب على أمرها القارةُ الأوروبية، إن كانَ في يوغوسلافيا أو العراق أو فلسطين أو سورية أو لبنان أو أوكرانيا والقائمة تطول.
وترى مجموعةُ بريكس أن الحلَّ يكمنُ في التحول إلى عالم متعددِ الأقطاب، يلغي الأحاديةَ القطبيةَ المعيبة التي يدفعُ العالمُ كلُّه ثمنَها وثمنَ انحيازِها لكلِّ ما هو صهيونيٌّ وأميركي وغربي، كما تعي المجموعةُ ودولُها أن هذا التغييرَ قادمٌ لا محالة ولو بعد حين، وتحاولُ بكل صبر وأناة مقاومةَ الضغوطِ الأميركية والغربية التي تحولت إلى جنونٍ في رداتِ الفعل مع مشاهدةِ دول العالم وهي تتسربُ من بينِ أصابعِ السيد الأميركي نحو الخيار التعدديّ الجديد، رغمَ العقوبات الأميركية والضغوطِ والتهديداتِ الواضحة.
في الجانب الآخر، تنظرُ دولُ العالم إلى مجموعة «بريكس بلاس» على أنها ضوءُ النجاةِ في آخر النفقِ الأميركي الذي دخلته مُكرهة، ويدركُ الجميع أن الطريقَ الذي ستسلكه هذه المجموعةُ طريقٌ محفوفٌ بالمخاطرِ والمشكلات، خاصة إذا وضعنا بعينِ الاعتبار أهدافها المتمثلة، بتغييرِ النظامِ العالميّ القائم على القطب الواحد، إلى نظامٍ عالمي متعددِ الأقطاب، وسعيها الدؤوب والحثيث لإعطاءِ دورٍ واضحٍ في صياغة السياساتِ العالمية وتقريرها لدول الجنوب المهمشةِ والمظلومة بكسرِ احتكار الغربِ وهيمنتِه على المنظمات الدولية وعلى رأسها مجلسُ الأمن، إضافة إلى هدفِها الأخطر والمتمثلِ بكسر الاحتكارِ المالي المعيب للولايات المتحدة ومؤسساتِها المشبوهةِ كصندوق النقد الدولي، وإنهاءِ سيطرةِ الدولار على السوقِ العالمي كعملةٍ تُحدّدُ ثمنَ كلِّ شيء وقيمةَ كل شيء، بفرض التعاملِ بين دولها بالعملاتِ المحلية والعمل لإقراِر عملةٍ موحدة لمجموعة بريكس، والحرصِ على تصميم نظام تحويلاتٍ مالية بديل لنظام سويفت.
لا شك أن هذه الأهداف وغيرَها التي وضعتها قيادات بريكس لن تخرجَ للعالمِ عبر ولادةٍ قيصريةٍ غير مؤلمة بل ستكلفُ العالمَ المعاصر مخاضاً وولادةً صعبة قد تودي به، فالغريزة الأميركية والصهيونية لا يحكمها أي قانونٍ عندَما يتعلق الأمر بمصالحها، وخيرُ دليلٍ على ذلك ما نراه اليوم في غزة ولبنان.
أخيراً، نُسبت للممثل الأميركي المبدع «ميل غيبسون» صاحب الرائعتين السينمائيتين «Braveheart» و«The Passion of the Christ»، مقولة ثم تم التشكيك بوجودها أصلاً، لكنَّ استحضارها هنا ضرورة لا بد منها، حيث نشر غيبسون صورةً لعلم الكيانِ الغاصب على ساعةٍ رملية، وتعليقاً كُتب فيه «يعرفونَ أن نهايتَهم قد اقتربت، ولهذا السبب يريدونَ تدميرَ أي شيء في طريقهم».
نعيش بكل مرارة وأملٍ الفرقَ الجليَّ بين الفكرين، فكرٍ يذوي ويدمرُ معَه كلَّ شيء وفكرٍ يزهرُ ويبني معَه كلَّ شيء.
كاتب سوري