بين أوهام «السلطان الأسير» و«أمراء الرمال»: هل تكون الرقة أم المعارك؟
| فرنسا – فراس عزيز ديب
يوماً ما، سأل طالب أستاذ اللغة: ماذا تعني عبارة «أمست يباباً»؟ فأجابه: كأنك تقول إنها أصبحت «قاعاً صفصفاً»، فرد الطالب في نفسه: ليتنا لم نسأل، لأنه بدل أن يُفسر، زاد الأمر تعقيداً.
حال هذا الطالب يشبه تماماً حال المواطن السوري هذه الأيام، الذي انتظر انتصارات الجيش لتنخفض معها قيمة الدولار، مما قد ينعكس إيجاباً على وضعه المعيشي، لكنه لم يتفاجأ بما حدث عكساً فحسب، بل تفاجأ بتبريرات «الفريق الاقتصادي» غير المنطقية، التي زادت في الأمر تعقيداً بدل أن تشرحه، وحال المواطن يسأل:
تُرى هل يدرس مسؤولونا تصريحاتهم قبل الإدلاء بها، أم إنهم يعيشون في وهم أن الشعب.. لا يقرأ!
حال الغموض امتدت كذلك الأمر خارج حدود الوطن، فمن انتظر «لقاء ميونخ» وما سيخرُج به من نتائج تتعلق بالشأن السوري، بدا وكأنه يصغي لفصاحة «الملك سلمان» وهو يلقي قصيدة غزل بمناسبة «الفلانتاين»، بمعنى آخر:
عدا عن إعادة التأكيد على الحل السياسي، وضرورة تنفيذ بنود القرار «2254» من دون شروط مسبقة، لا يمكن القول إن هناك شيئاً مهماً، أو تفاهمات جديدة، كل ما حُكي هي أمور مُتفق عليها، لكن بعض التفسيرات الجديدة زادت النص تعقيداً، وباتت المتاهات أكثر التواءً، فكيف ذلك؟
جرى الحديث عن مصطلح وقف «العمليات العدائية»، هذا المصطلح يذكرنا تماماً بمصطلحات «عقلنة الدعم» أو «هندسة الدعم» التي يكررها الفريق الاقتصادي السوري، عبارة عن مصطلحات للإيحاء وكأن شيئاً ما قيد الإنجاز لا أكثر، وفي الحقيقة كلها شعارات ليست للتنفيذ، والخصخصة تتسرب إلينا بهدوء.
إذا كان وقف «العمليات العدائية» أو حتى إن وصلنا لوقف إطلاق النار، لا يشمل «داعش» و«النصرة» و«تنظيمات أخرى»، فما الجديد إن كنا لم نحدد حتى الآن ما هي «التنظيمات الأخرى»؟ ثم كيف سننفذ الشق الإنساني للمناطق المحاصرة من قبل التنظيمات المتفق عليها بأنها إرهابية؟
في الحديث عن دخول المساعدات الإنسانية لكل المناطق، بدا لافتاً ذكر «جون كيري» لـ«دير الزور» بوصفها مدينة حيث المسلحون يحاصرون القوات الحكومية، علماً أن في «دير الزور» لا يوجد «مسلحون»، إذا افترضنا أن هذا الأمر تعبير عن «معارضة ما تحمل السلاح»، هناك «داعش» فقط، كما أنهم لا يحاصرون «القوات الحكومية» فحسب بل الأدق أنهم يحاصرون المدينة بكاملها، فالمجزرة الأخيرة التي ارتكبوها في حي «البغيلية» كان ضحاياها مدنيين، فما هي الآلية التي تمتلكها المعارضة لتنفيذ الاتفاق من جهتها والتواصل مع «داعش» لتمرير دخول المساعدات الإنسانية؟
أما «كفرية والفوعة»، فهما محاصرتان من «جبهة النصرة وتوابعها»، بمعنى آخر:
على كامل التراب السوري، تحديداً بعد فك الحصار عن «نبل والزهراء»، لا يوجد أي منطقة محاصرة من قبل «التنظيمات الأخرى»، كمثال فإن «جيش الإسلام الإرهابي» لا يحاصر مناطق موالية للطرف الآخر، هو يأخذ سكان المنطقة التي يسيطر عليها كدروع بشرية بما فيهم «المخطوفون»، والقيادة السورية بطبيعة الحال لا تنتظر هكذا اتفاق لتسمح بدخول المواد الغذائية لهذه المناطق، لأنها تفعل ذلك من دون وجود هكذا اتفاق، فجميع المناطق الموالية للطرف الآخر محاصرة من «داعش» أو «النصرة وتوابعها»، وكلاهما لن يشملهما اتفاق وقف إطلاق النار، إذاً عن أي مساومة أو تطبيق لوقف عمليات عدائية وما شابهها من مصطلحات نتحدث؟ حتى الأزمة الإنسانية التي نتجت عن اقتحام الجيش السوري لـ«ريف حلب» هي بالأساس جزء مما يريده الغرب من الاستثمار بمعاناة هؤلاء النازحين، وهي استمرارية لتعويم «هجرة السوريين» إعلامياً، طلبوا منهم الخروج من كنف الدولة، سلحوهم ووعدوهم بـ«سقوط النظام»، وضمانات بأنهم سيكونون محميين من أي اعتداء، وعندما دقت ساعة الحقيقة أغلقوا الحدود في وجههم وجلسوا ليتباكوا عليهم، علماً أن الجيش السوري لم يدخل منطقةً في الريف الشمالي إلا بعد أن رمى بمنشورات لأهالي القرى بأن عليهم طرد الإرهابيين الغرباء وأن أي سوري يمكنه ببساطة البقاء ليكون جزءاً من مستقبل سورية، لكنهم أصروا أن يكونوا أسرى لمن يضحك عليهم، إذاً الاتفاق لن يقدم جديداً، هو بمثابة ترحيل للحلول، فما الذي ينتظرنا؟
استعر الخلاف التركي الأميركي كما كان متوقعاً، أردوغان وجد في انشغال الجميع بما يجري في «ريف حلب» فرصة للتشفي بخصومه الأكراد، مئات القتلى في المدن التركية الجنوبية نتيجة لقصف الطيران التركي لهم بذريعة محاربة «العمال الكردستاني» وسط تعتيم إعلامي غير مسبوق، لدرجة أن البعض قال ساخراً: لم نعد نميز هذه الصور من اليمن أم من جنوب تركيا!؟
إلى الآن لا يبدو مفهوماً إصرار الجانب الأميركي على التمسك بالأكراد حتى لو أدى ذلك لخسارتهم أردوغان كحليف، هم أمام احتمالين إما أن ما يعدون له في الحالة الكردية شمال سورية سيكون بديلاً أهم من الحالة التركية، وهذا لا يبدو منطقياً، أو أنهم متأكدون من كسب النقطتين معاً، بمعنى آخر:
أردوغان لم يعد لديه ما يقدمه، وأن احتمال تفشي الخلاف الداخلي في تركيا في تصاعد، وأوروبا لن تسمح بمن يهددها بتدفق اللاجئين، بل إن كيري بالأمس ذهب أبعد من ذلك بقوله إن مشكلة اللاجئين باتت كتهديد وجودي لأوروبا، لذلك هي تسعى لكسب الأكراد، دون أن تخسر تركيا، لأن أردوغان في النهاية ليس تركيا.
من هذا المنطق لا زال «العدالة والتنمية» يرى بـ«آل سعود» تحالف الهاربين من الواقع المرير، فمن خلال كلام وزير الخارجية التركي بالأمس بدا واضحاً أن تركيا فتحت قواعدها الجوية لطيران «آل سعود» بشكل أوسع، وهو ما يمهد لما تحدث عنه الأسد قبل أمس لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» بأنه لا يستبعد قيامهم بعدوان بري، بل أكثر من ذلك هو تحدث عن إغلاق الحدود التركية بالكامل، لكن علينا هنا أن نتذكر أن الأسد لا يقول كلاماً من باب الحشو، لإنهاء الجواب، فهل سيفهم الجميع الرسالة؟
حاول وزير الدفاع الأميركي قبل أمس التركيز على فكرة دعم «السنة السوريين» لاستعادة أراضيهم بما فيها «الرقة» والتي تعتبر الجبهة الوحيدة لقيام «آل سعود» بتحرك بري ضد «داعش»، حتى «مانويل فالس» الذي لم يتعظ من رحيل «فابيوس» والطامح ليكون وريثاً يوماً ما لهولاند، تحدث عن فرضية المساعدة «الخليجية» للقوات المحلية. في هذا السياق تشير مصادر أمنية أوروبية أن البديل عن إرسال قوات برية موجود فيما يُسمى «جيش العشائر» الذي سيتم إعداده لعملية اقتحام الرقة لتكون المدينة كحجر أساس وركيزة لما هو قادم، هذا الأمر قد يُرضي «آل سعود» وقد يرضي الأتراك أيضاً، تحديداً مع الحديث عن التطهير العرقي الذي استخدمه بعض أصحاب الطموحات الانفصالية بحق العرب في الشمال السوري، فسينظر لهم أردوغان من منطلق «عدو عدوي هو صديقي». لكن هل هذا الأمر قابل للتنفيذ؟
إن تصريحات «آل سعود» كما طغمة أردوغان تجاوزت كل حدود الجنون، لا يلفها التناقض فحسب، بل يلفها اللامسوؤلية، فالتناقض واضح بين الجبير الذي يجهز لعمل عسكري وكلام العسيري الذي يتحدث عن ربط الأمر بقيادة أميركية، أي إن سقوط الأمر سيكون بمجرد إعلان الأميركيين رفضهم لهذا الأمر؛ «رفضهم العلني وليس المواري».
وصول الجيش السوري للحدود التركية وإغلاقها بالكامل، سيعني حكماً أن المعركة القادمة التي يتحدث عنها الجميع هي فقط الرقة، فمن سيصلها أولاً؟
هذا الأمر تحدث عنه الرئيس الأسد قبل أمس لوكالة الصحافة الفرنسية عندما قال إننا سنستعيد كل الأراضي السورية، لم يكن رد «البيت الأبيض» بأن الأسد واهم إذا ما فكر أن الحل عسكري، علماً أن الأسد لم يقل يوماً بأن الحل عسكري، هو يكرر أن الحل باتجاهين: سياسي وحرب على الإرهاب، وكلا المسارين تعترف فيهما أميركا بذاتها، لكن العبرة دائماً بالتطبيق. بالتالي، لن يكون هناك ما يُسمى «وقفاً للأعمال العدائية»، ولن يكون هناك دخول مواد إغاثية للمناطق التي تحاصرها «داعش»، ما سيبقى هو شيء وحيد وهو محاولة كسب الوقت من باب من يصل أولاً للرقة؟
عليهم هنا فقط أن ينتبهوا أن السباق للرقة قد لا يعني فقط أن أحلامهم «أمست يبابا»، لكن طموحاتهم المستقبلية ستكون «قاعاً صفصاً»، ولمن لا يصدق فلينظر لريف حلب الشمالي، هل كان أشد المتفائلين يتوقع انهيار ما كانوا يجهزون له منذ سنوات بأقل من شهر؟ وجهوا أنظاركم للرقة… فعبر التاريخ كانت مسرحاً للكثير من التحولات التاريخية.