ثقافة وفن

الأستاذ الدكتور المجمعي محمد شفيق البيطار في رحاب الله … عاش محققاً ودارساً وأخرج كنوز التراث العربي .. أعطى عمره لطلابه فخرّج عشرات شهادات الدكتوراه والماجستير

منح الطفولة اهتمامه فقدّم لها ما يصلح للتربية والحياة في أشهر أعمال الأطفال

| إسماعيل مروة

الأستاذ الدكتور محمد شفيق البيطار واحد من أهم علماء العربية قاطبة على صغر سنه، من أكثر المدققين العارفين في بواطن اللغة وتراثها، شعرها ونثرها، أخلص حياته العلمية للأدب القديم، فأحيا حميد بن ثور، واستعاد قبيلة بني كلب بن وبرة، وجمع ديوان الصديق رضي الله عنه، وأنصف ابن مسافر ومنجزه في الاختيارات، وفي اللغة كان محلقاً وحافظاً ومرجعاً، وفي الشعر وأوزانه كان الوحيد الذي لا يُردّ له حكم فيما يقول، وعلى الرغم من اختصاصه القديم، فقد كان مطلعاً وشغوفاً بالحديث فقرأ الكثير وحاضر في عدد منهم، ويمثل نموذجاً فريداً للباحث الموسوعي في القديم والحديث، إضافة إلى ما قام به خلال مسيرته من عمل إعلامي وتربوي يعجز عنه فريق عمل… محمد شفيق البيطار بعد أن خرّج عشرات الشهادات من الدكتوراه والماجستير يغادرنا وهو عطر الذكر، نبيل الأثر، لا يقدر واحد أن يسلبه من محاسنه التي لا تحصى، مضى حاملاً شرف العلم والتدريس، وعلى صدره شارة مجمع اللغة العربية بدمشق.

العمل في التحقيق

من المصادفات المؤلمة لي أنني تزاملت مع الدكتور شفيق واحداً وأربعين عاماً، دخلنا كلية الآداب معاً، في دفعة واحدة، تخرجنا معاً، ولا نزال معاً، وسنبقى دوماً، وفي السنة الأولى كان الراحل عبد المعين الملوحي قد أصدر كتابه (أخبار اللصوص وأشعارهم) فاقتنى شفيق نسختين واحدة له وأخرى لي قرأت في نسختي ووضعتها في المكتبة، وبقي شفيق يحمل نسخته ومعه قلمه، يضيف ويصحح ويشطب، وقال لي: أعود إلى المصادر القديمة فأصوّب أشعاراً، وأضيف أخرى، وربما وجدت شاعراً لم يذكره، وأضبط ما يحتاج إلى ضبط، وأظن أن حجم الكتاب تضاعف لو تهيأ لي العودة إليه.. ومنذ ذلك اليوم ظهرت ملكة التحقيق عند شفيق، وبقي على مدار السنوات الأربع الأول الذي لا ينازعه واحد، المتواضع الذي لا يعرفه أصدقاؤه، ولا يتشاوف عليهم.. وكان معيداً في الأدب الجاهلي، وحقق ديوان حميد بن ثور بعد عبد العزيز الميمني، ومن يجرؤ على فعل ذلك غير المتمكن الذي لا يشقّ له غبار، وأنجز ديواناً فريداً لشاعر فريد، وفي الدكتوراه عكف سنوات طويلة يجمع ديوان قبيلة كلب بن وبرة، ويدرسه، ليجمع الشتات النادرة، ويقدم ديوان قبيلة لم يسبق إليه في مجلدات ثلاثة.. وفي أثناء دراستنا جمع شعر أبي بكر الصديق وطبعه، وكم كان متألماً عندما سرق أحدهم جهده فيه، وضاع الجهد لمصلحة من لم يسمع بأبي بكر شاعراً.. ومنذ أشهر صدرت طبعة كتاب اختيارات ابن مسافر بالاشتراك مع صديقه الوفي الدكتور مقبل، فكان كنزاً ثميناً يضاف إلى مكتبة الاختيارات والتراث، يومها قال: جاءتني نسختان مبدئياً، واحدة لك وأخرى لي..

لم يتوقف عمله في التحقيق على ما أنجزه، فقد كانت روح الإيثار عنده عالية، عندما يقدم لطلابه مخطوطاً أو فكرة للحصول على درجة علمية، بل يعطيهم ما أنجزه ليكون علامة في طريق البحث الشاق، وأزعم أن شفيق من مزاملتي له في المكتب في قسم اللغة العربية هو المشرف القارئ بدقة، حرفاً حرفاً، وهو القارئ الطلاب الآخرين، وهو المرجع في كل قضية تعرض عليه دون تأفف أو تبرم، وكم من مرة اختار للطالب الموضوع، ووضع له المخطط، وراجع ما أنجزه، ودافع عن الطالب وحقوقه عندما كان رئيساً لقسم اللغة العربية بجامعة دمشق، أو عندما كان رئيساً لتحرير مجلة جامعة دمشق، بأي اختصاص كان الطلبة، كانوا يقصدونه، وبابتسامة ودّه العلمية، يمسك القلم بيده اليسرى ليبدأ الإرشاد والتقويم والتوجيه.

التأسيس والغيرية

عرف عن الأستاذ الدكتور محمد شفيق البيطار غيريته فهو شخص محب للناس، يقدّم مصالحهم في كثير من الأحيان، وقد استطاع رحمه الله أن يؤسس لمناهج تدريس الأدب الجاهلي بعد أن كانت أمليات وبحبه واندفاعه للعلم والناس جمع كوكبة من الباحثين الذين أشرف عليهم، ورأى فيهم العلم والنباهة، وانسحب تدريجياً من التحكم بالمادة، بل جعل محاضراته بلا درجات ولا امتحان وهي للاستزادة، وشهد قسم اللغة العربية عدداً من الوفيات المفاجئة والأمراض المستعصية فكان المندفع لمساعدة الجميع، وإن لم يكن لديه إلا القليل، فإنه يجود به وبدالته على الآخرين يستطيع خدمة الزملاء..

إسهاماته التربوية

منذ ما يزيد على ثلاثة عقود والدكتور البيطار يشرف على برامج الأطفال إعداداً ولغة ورسالة في إحدى أهم الشركات التي تتوجه للأطفال وملاصقتي له جعلتني أرى مقدار ما كان يفعله ويقدمه، فهو كان يتابع الأصل الأجنبي حرفاً حرفاً، ويقف عند دلالاته التربوية والقيمية، وكم من مرة وقف عند إشارة فنية، مقضية في اللباس، أو إيحاء في حركة، ليتوقف ويناقش طويلاً حتى يقنع الشركاء بضرورة التزام المنهج التربوي وطنياً وقومياً وتربوياً، انطلاقاً من رؤيته بأن هذه الأعمال أنتجت لثقافة أخرى، ومن حقنا أن نتصرف بها طالما أنها تتوجه إلى ثقافتنا، ولا أستطيع تذكر التفاصيل، وليس من حقي ذلك لأنه يعني الشركة المنتجة المحترمة التي كانت تثق بالدكتور وعلمه ورؤيته التربوية العربية الخالصة.. وعدد كبير من هذه الأعمال كتب شارات أعمالها شعراً الدكتور البيطار، ويرددها أطفالنا، وقد استطاع أن يجمع هذه الأشعار الكثيرة والسهلة والعميقة في لغتها ودلالاتها ومضامينها وبعضها حكايات على ألسنة الأطفال، وأرسلها إلى إحدى المسابقات العربية وغادر الدنيا ولم تصدر النتيجة إيجاباً أو سلباً، وقبل رحيله بأسبوع عبّر عن رغبته بأن يطبع هذا الديوان ليكون بين أيدي الأطفال، وإن لم يتمكن فإنه سيقوم بنشره على الإنترنت مجاناً لكل الأطفال… إن برامج الأطفال الناجحة باللغة والحكايات تدين بالكثير لهذا الرجل الذي كان يعمل بصمت وزهد زائدين عن الحد، وكل من عمل معه رأى أنه لم يتساهل بكلمة أو لقطة يمكن أن تؤدي دوراً هادماً في التربية.. ومنذ شهور اختار واحداً من طلابه النجباء ووضعه إلى جانبه، وحين سألته قال: يجب أن يكون أحد المثقفين الذين يكملون المشوار، فقد أغادر لسبب أو لآخر..

عضوية مجمع اللغة العربية

رُشّح اسم الدكتور لعضوية مجمع اللغة العربية، وللحق فإنه كان زاهداً بكل شيء، ولأنه ينظر إلى كل عمل من منظور الأمانة، ومن أنه تكليف إلهي وواجب فقد التزم العضوية وأعطاها حقها، وصار عضواً في عدد من اللجان، وفي كل مرة تجلس إليه تجد الحاسب أمامه والمراجعات والتصويبات، ولم يكن قادراً على أي مجاملة في الأشخاص أو العلم، وأزعم أنه كان أميناً على المجمع والقضايا العلمية التي أوكل إليه أمر إعدادها أو مراجعتها، ومن أمانته التي أذكرها لأنها خاصة بي وبه، فقد عملت بإشراف أستاذي العالم الجليل مروان البواب على إنجاز «معجم الأخطاء الشائعة في الكتابة والنطق» والجهد الأكبر لأستاذي البواب، لكنه آثر أن تبقى الشراكة، وليشعرني بجهدي أعطاني التجربة الأخيرة لمراجعتها، وبسبب وضع عينيّ الصحي لم أتمكن ولم أعتذر، فطلبت من أخي شفيق أن يقوم بالمهمة، فوافق شريطة ألا يعرف واحد بالأمر، وبالمجان، لكن الأستاذ البواب وأنا تقديراً لقيمة ما فعله قمنا بإيراد اسمه وشكره، وكم عانيت في الأمر الآخر حتى استطعت إقناعه، برحيله خسر المجمع، وخسر الأصدقاء عالماً مشاركاً ومتطوعاً في خدمة العلم دون تأفف.

الإدارة والمصلحة

تولى الدكتور محمد شفيق البيطار رئاسة المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون، وأنجز ندوات، وفعّل المجلس حتى ابتعد عنه بداعي السفر، وصار رئيساً لقسم اللغة العربية، وخلال مدة رئاسته كان يحضر قبل أي طالب أو أستاذ، ويبقى بابه مشرعاً حتى يغادر بعد الجميع، ولم يؤخر معاملة لطالب، ولم يضع عثرة أمام طالب أو زميل، ولم يجامل واحداً على حساب آخر حتى اختار أن يرتاح من رئاسة القسم ويحتفظ برئاسة تحرير مجلة جامعة دمشق لمدة لا بأس بها.

وفي ميدان الأبحاث المحكمة لم يجامل واحداً ممن ثبت عليه أن بحثه فيه مشكلة ولا يصلح للتحكيم، وفي هذه المدة قوبل الدكتور البيطار لأنه مرشح لعمادة الكلية مرة، ولمنصب نائب رئيس جامعة دمشق مرة أخرى، وفي كل مرة كان يعتذر لأسبابه.. وكانت أسبابه كما أسَرّ مرات بأن هذا العمل الإداري يحتاج تفرغاً تاماً، وهذا لا يستطيعه بسبب عمله الخاص، الذي لا يستغني عنه ليكفي بيته وأسرته، وكلاهما عنده مهم.

أعماله منجزة

منذ أعوام والدكتور البيطار يعمل على كتاب «حرب البسوس» ويجمع المخطوطات ويحقق، ويعد دراسة عن أدب المسامرات، ويدافع بأنه أدب أصيل وليس أدباً شعبياً مرذولاً، وقد رأيت الكتاب شبه تام بين يديه وكان يسعى لإيجاد طريقة لنشره وتوزيعه بما يعادل قيمة الكتاب وجهده فيه.

– أنجز ديوان الصديق ودراسة فنية كبيرة فيه، وخاطب جهات كثيرة لنشره، لكن نشره تعذر لأنهم أرادوا الديوان دون الدراسة، وهو جعلهما متلازمين عسى أن يجد الكتاب طريقه.

– ديوان الأطفال الشعري، وهو يعد من الأهمية بمكان، إذ يجمع أشعاره في مسلسلات الأطفال التي أشرف عليها، وإضافات أخرى، وفيه إضافات للمنجز الشعري للطفل والحكايا.

– ديوانه الشعري، وكثيرون لا يعرفون أن هذا الرجل العالم كان شاعراً دقيقاً غزلاً، ينساب شعره بالسهولة والطزاجة، ومنذ أيام الدراسة الأولى قال شعراً عذباً، لو قدر له لسار بين الناس، ولم ينشره مع أنه جاهز بين يديه، ويكرّسه شاعراً من شعراء تسعينيات القرن العشرين في الشعر العمودي، وفي شعر التفعيلة.

وأخيراً

بين مولده عام 1965 ووفاته عام 2024 أمضى أخي وصديقي العالم الجليل الأستاذ الدكتور المجمعي محمد شفيق البيطار عالماً ومتعلماً، دارساً ومدرساً، مثقفاً وملقياً، عرفته الملتقيات قليلاً حين استجاب لإلحاحي وشارك في ندوات عدة عن الأدباء الحديثين فكان مجلياً في كل ميدان، لأنه لم يقبل يوماً أن يدخل في ميدان لا يملك عدته.

ستبقى في ذاكرة طلابك وأصدقائك منارة وستبقى عصياً على أولئك الذين يعجزون عن مجاراة زهدك ونبلك واستقامتك ووطنيتك..

في رحاب الخلد أيها العالم الكبير..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن