جنون الحب يكذب العقلاء
| د. راتب سكّر
انتشر أدب الخيال العلمي ونقده انتشاراً واسعاً، في السنوات الماضية، مماهياً الظروف الملائمة في المجتمع، لتصديق ما حدث، ومتابعة مؤثراته في حياة الناس وتصرفاتهم اليومية.
ظنّ المراقبون في البداية أن الرجل والمرأة اللذين ظهرا يتحاوران بلغة عربية فصيحة، في شوارع المدينة، يؤديان دورين في مسرحية أحمد شوقي الشهيرة: «مجنون ليلى»، ولما طال حوارهما، ولبس لبوس الشجار المحفوف بمواكب الصراخ وتبادل الشتائم والاتهامات، تدخل بعض المعنيين بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية، يعاونهم غير قليل من الفضوليين وعابري السبيل، وشكلوا ما يشبه هيئات الحكم في القبائل القديمة، لتفهم أحوال الرجل والمرأة وفك رموز حوارهما وإشاراته الغامضة.
رضيا برفع قضيتهما إلى هيئات ثقافية واجتماعية تخولها القوانين والأنظمة البت في القضايا المهمة والكبيرة، نظراً لغرابة أحوالهما، وما يكتنفها من تداخلات شخصية وعلمية وثقافية. فقد ادعى الرجل بأنه قيس بن الملوح العامري، وادعت المرأة بأنها ليلى العامرية المحبوبة التي جُنَّ بها الشاعر وهام على وجهه في الصحراء.
بعد أخذ وردّ، وسؤال وجواب، وضحا أنهما شربا منقوع أعشاب ملونة، فناما نومة أهل الكهف، حتّى إذا استيقظا من نومهما الطويل، فوجئا بهذا العالم الصاخب من الفوضى المزركشة المزدانة بشرائط حمراء وخضراء وصفراء، تتدلى من شرفات الأبنية العالية حاملة عبارات غريبة، مثل: «2006- عام جديد مبارك».
شغلا عن مفاجأتهما بما يريان ويسمعان، بقضية أساسية واحدة، محورها صفة «المجنون» التي وصفته بها، ودفاعه عن نفسه بأنه عاقل جداً، يعرف أن الوشاة والخصوم اتهموه بالجنون، كي يشوهوا صورته في عيني ليلى.
بعد أيام من الحوار، والعتاب، وتبادل الأحاديث مع أعضاء اللجان والأصدقاء الجدد، تسربت إلى لغة كلّ منهما مفردات وعبارات جديدة لم يألفاها من قبل، راحا يصغيان إليها غاضبين تارة، وهازئين ضاحكين تارة أخرى.. وعندما أصرت على موقفها تتهمه بالجنون، انتفض غاضباً صارخاً بوجهها: «تقارير كاذبة، كل ما وصلك من أخبار عن جنوني كاذب، تقارير كاذبة من تدبير الوشاة والخصوم». قهقهت بضحكة عالية، مبدلة بالحوار الدائر صاخباً، دعابة هادئة تتحرى معنى كلمة «تقارير» ودلالاتها، فالكذب والوشاة والخصوم وما شابه أمر معروف مألوف فيما تعرفه من مفردات وعبارات لغوية، أما التقارير فمفردة جديدة، أثارت في نفسها شعوراً عارماً بالضحك العالي، لم تعرف له سبباً.
طال الحوار، وتشعب في شعابه، متحملاً تدخل المتدخلين، من دون فلاح أحد منهم في إقناع ليلى بتغيير موقفها. كان ذكر جنون قيس، يرضي غرور جمالها وأنوثتها، ويطمئن خفقات قلبها المستيقظ بعد نوم طويل. وفي المقابل كان قيس يتألم خائفاً، فقد أدرك أن مواقف أصحاب هذه الأيام من الجنون وأهله، لا تسرّ صديقاً، وقد لا تسمح له بالهيام في البراري، فثمة محاجر معاصرة، وثمة فنون تقييد لم تكن تخطر في بال.
في جوٍ محمومٍ بالصراخ، وتبادل الاتهامات، بلغةٍ تئنّ بما غزاها من مفردات جديدة، شعرا أن الودّ هان عليهما، وشاهدا الناس يتزاحمون أمام محلات بيع الورود، فعلما أنهم يحضرون واقع الحال للاحتفال بعيد الحبّ، وكلّ منهم يجعل اسمي «قيس وليلى» علامة للحبّ الصافي، وأمارة للعيد القادم. سادهما تناقض الأحوال، فقررا تأجيل خلافاتهما، وطيّها في رماد الكلام، علّهما يحظيان بجمرة ينظفان بنارها ما اعترى مفرداتهما اللغوية من رتابة وخمول، ولو إلى حين.