بين «القرار 2268» وأوهام الخطط الأميركية البديلة: هل بدأت ملامح الحل ترتسم؟
| فرنسا – فراس عزيز ديب
«الحمدُ للهِ على نعمةِ العقل»، عبارةٌ قد يكرّرها كثرٌ منّا عندما نتابع تصريحات «العثمانيين الجدد» أو «مستعربي النفط»، تحديداً أولئك المتورطين بالحرب على سورية، تصريحاتٌ تعدَّت مرحلة الانفصام عن الواقع، لتبدو كمَن يسابق ظلّه. لكن ماذا عن عبارة «الحمد لله على نعمة الكرامة»؟
عندما تم الإعلان عن تفاهمٍ (أميركي- روسي)، حول آلية ما يُسمى «وقف الأعمال العدائية» في سورية، كان الأمر أشبه بالصدمة للجميع، تحديداً أن التفاهم بدا للبعض وكأنه نوعٌ من تقطيعِ الوقت، أو لجمِ الاندفاعة التي يحققها الجيش العربي السوري والحلفاء على جميع الجبهات، ما قد يشكل فرصةً للإرهابيين لالتقاط أنفاسهم واستجماع شراذمهم. أما «الآخرون» فهم حكماً لم يُعجبوا بهذا الاتفاق، حتى الأتراك خرجوا كالعادة ليستعرضوا عضلاتهم إعلامياً بالقول إن الاتفاق لا يُلزم تركيا، وأتبعوها كالعادة بعبارة (إذا تم تهديد أمنهم).
بعيداً عن وجهات النظر المختلفة، فإن أي تعاط تشاؤمي بالمطلق مع الغاية الحقيقية من الاتفاق، ربما قد بدده بالأمس قرار مجلس الأمن الدولي 2268 الذي تبنى التفاهم، من دون المساس بما يروج له أصحاب نظرية حل سياسي (سوري- سوري) يحافظ على سيادة ووحدة الأراضي السورية بالتوازي مع الحرب على الإرهاب. كما أن أي تعاط تشاؤمي مع انعكاس تنفيذ الاتفاق على الأرض، ربما قد بدده بالأمس الكثير من البنود التنفيذية للاتفاق، والتي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الروس فرضوا وجهة نظرهم في النهاية، بمعنى آخر قد يتساءل البعض: هل سيكون هذا القرار مجرد حبرٍ على الورق، وماذا عن القرارات السابقة؛ لماذا لم تنفذ؟
قد يبدو التساؤل منطقياً، لكن الإجابة عليه واضحةٌ من خلال «بيضة القبان» (السعو- تركية)، أي «جبهة النصرة» وملحقاتها، الذين لم يتم استثناؤهم من الحرب على الإرهاب، ودمجهم في الحل السياسي كما استمات البعض أن يفعل. بالتالي بدا الأمر وكأن القرار لن يعدل كثيراً من خريطة الحرب على الإرهاب، لكنه حكماً سيعدل بطريقةٍ حيويةٍ في خريطة المصالحات الوطنية، فكيف ذلك؟
كان مثيراً للشفقة أن يأتي الخبر للمعارضة السورية وداعميها من وكالة الصحافة الفرنسية بأن أكثر من تسعين فصيلاً «معارضاً» أعلنوا قبول الهدنة، الرقم ليس بالضئيل، وهو لا يثبت أن المعارضة ذات حجمٍ بقدر ما يثبت أن المعارضة متشرذمةٌ أكثر حتى مما يتوقع حلفاؤها، وأن التكتلين الوحيدين المتماسكين اللذين يمكن البناء عليهما هما «داعش» و«النصرة»، وهما خرجا عملياً من التصفيات المؤهلة للحل السياسي، ولا يمكن استثمارهما إلا بإطالة عمر الحرب عسى يتحقق طموح «آل سعود» بوصول رئيسٍ جمهوري إلى سدة البيت الأبيض، يكون جاهزاً أن يخوض حربهم في سورية، لكن الوقت حكماً لا يسير في مصلحتهم.
النقطة الثانية أن ما يُسمى «معارضة الرياض» اشترطت وقف العمليات لمدةٍ محددةٍ كاختبارٍ، لكن ما يتجاهله هؤلاء أن الجبهات المشتعلة والتي تشكل هدفاً أساسياً للجيش العربي السوري والحلفاء لن تتوقف، لأنها ليست مشمولةً أساساً بالقرار الدولي. بالتالي فلا معارك جانبية على أطراف المدن كدمشق ودرعا مثلاً، ما دام هناك إمكانية ما لحقن الدماء، مع الأخذ بالحسبان أن قيام الجيش والحلفاء بتحرير معاقل «داعش» و«النصرة» لأنهم باتوا متفرغين لها لا يعني فقط زيادة المساحة التي تسيطر عليها الدولة، لكنها حكماً ستعني خسارة المعارضين لأوراق قوةٍ، فهم من جهة كانوا يعيرون «النظام» بضآلة المساحة التي يسيطر عليها، لدرجةٍ يجعلونك متأكداً بأنهم يعتبرون مناطق سيطرة «داعش» نقاط قوةٍ لهم؛ وكأنهم حلفاء، واستعادتها من الجيش العربي السوري خسارةٌ غير مباشرة لهم. أما تحرير المناطق التي تحت سيطرة «النصرة وأدواتها» فهي حكماً خسارةٌ مباشرة للمعارضة التي كانت ولا تزال تعتبر «النصرة» حليفاً وجزءاً لا يتجزأ منها كما كان يكرر «معاذ الخطيب مثلاً». من هنا قد نفهم رسالة الإرهابي «أبو محمد الجولاني» التي طالب فيها جميع الفصائل برفض الهدنة، لكن هناك من يطرح تساؤلاتٍ منطقية: إذا كان هذا الاتفاق قابلاً للتطبيق وفرص حقن الدماء تتقدم، فلماذا يهدد «جون كيري» ليل نهار بما سماه الخطة «ب»؟
بشكلٍ عامٍ إن تهديدات كيري بالخطة «ب» هو نوعٌ من التلاعب الكلامي، لا يشبهه إلا حديث كل مسؤولٍ تورطت بلاده بالحرب على سورية عن «رحيل الأسد»، فرحلوا وبقي الأسد، بمعنى آخر: إن الولايات المتحدة نفذت خططاً لإسقاط الدولة السورية بما يوازي الأحرف الأبجدية كاملةً، وهي لو كانت تمتلك أشباه خططٍ قابلة للتنفيذ لما وفرتها، أي قد يتلو علينا «جون كيري» من هنا حتى انتهاء ولاية أوباما نهاية العام الكثيرَ من التصريحات الرنانة عن الخطط البديلة، لكن الكلام شيءٌ والواقع شيءٌ آخر.
عندما يقول «سيرغي لافروف» أن لا معلومات لدى الروس عن الخطة «ب»، فإن كلامه يجب أن يؤخذ بمعنى أشمل، أي: ليس لدى الروس معلوماتٍ استخباراتيةٍ عما يُسمى الخطة «ب»، لكن لافروف أراد الردّ على كيري فيما يبدو بطريقةٍ مهذبةٍ، حتى وسائل الإعلام الأميركية كانت تجهل أي كلامٍ عن هذه الخطة، لكن وبعد النفي المباشر للافروف، خرجت إحدى المحطات الأميركية بما سمته معلوماتٍ عن الخطة «ب» والتي هي اجترارٌ لأفكار عفا عنها الزمن، لأنها حكماً ستؤدي لتقسيم سورية من قبيل إرسال المزيد من المدربين الأميركيين للشمال السوري وزيادة دعم ما يسمونه «المعارضة المعتدلة»، تمهيداً لإنشاء ما تم الترويج له منذ أشهر في العراق وسورية «إقليم سني» يوازيه «إقليم كردي»، لكن هل يمكن فعلياً تطبيق هذه الخطة؟
بالإطار العام تبدو الخطة تهويلٌ إعلامي لا أكثر، قد يكون لها أحد هدفين، الأول من باب حفظ ماء الوجه الأميركي بأنهم جاهزون لأسوأ السيناريوهات، تحديداً أنها لم تصدر بشكلٍ رسمي. أما الثاني فهو امتصاص غضب حلفاء أميركا على قبولها بالرؤية الروسية بما يتعلق بالتفاهم الذي أدى لولادة القرار 2268، لكن ما الذي يدعم هذه الفرضية؟
في الواقع هناك مساران يرجحان هذه الفرضية، أولها أسباب تتعلق بشكلٍ مباشرٍ بما يجري على الأرض السورية، فالتدخل البري بات وراءنا وهو غير قابلٍ للتنفيذ عملياً من دون موافقة السوريين وحلفائهم، الأمر الآخر هو أن الأميركيين أدركوا تماماً أن أي اشتباكٍ سيؤدي لحربٍ كبرى وهم ليسوا جاهزين لها إطلاقاً، وبذات الوقت ليسوا واثقين من انتصار حلفائهم، ولو كانوا واثقين لما ترددوا. أخيراً، إن هذه الهدنة قد تعزز من مصداقية الروس كرعاةٍ لها عند بعض الجماعات المسلحة التي كانت ولا تزال لا تثق بجدية القيادة السورية بحقن الدماء، وقد يوسع مسار المصالحات، دون أن ننسى هنا حالة التقارب والتحالف بين بعض القوى الكردية وروسيا والتي أثمرت تعاوناً مع الجيش العربي السوري.
أما المسار الآخر فهو متعلقٌ بالجو العام، بعيداً عما يجري على الأرض، فالإعلام الفرنسي بدأ نوعاً ما ينقلب على بعض الروايات المتعلقة بالحرب على سورية. أمّا فيما يتعلق بـ«آل سعود»، فإن الرسالة التي وجهها البرلمان الأوروبي منذ أيام ليست بالسهلة، لأنها بشكلٍ عام لا تتحدث عن منع بيع السلاح فحسب، لكنها تتحدث أيضاً عن جرائم مرتكبةٍ بحق المدنيين في اليمن، علماً أن حكومات الدول الكبرى كفرنسا وبريطانيا وألمانيا هي التي تسيطر على القرار الأوروبي لامتلاكها العدد الأكبر من الأعضاء والقوة الاقتصادية المتحكمة بالاتحاد بشكل عام، وهي في الوقت ذاته ليست أكبر مصدر سلاحٍ لمملكة القهر فحسب، لكنها كانت تقف خلف المملكة في هذا العدوان وتغطيه لدرجةٍ كان فيها «لوران فابيوس» أشبه بمعاونٍ للجبير، بل تفوق عليه في كثيرٍ من المواضع في الدفاع عن قتل الأبرياء، فهل إن صدور هذا القرار مصادفة؟ بالتأكيد إن قرار البرلمان الأوروبي ليس ملزما للحكومات، لكنه في النهاية يبقى رسالةً هامةً تشبهها رسالة الكونغرس باعتبار «الإخوان المسلمين» حركةً إرهابية، وهنا نقول على الهامش، ألا يعني هذا الأمر خروجهم كذلك الأمر من تصفيات الحل السياسي في سورية؟ أما النقطة الأخيرة، فهي بالتحديد متعلقةٌ بما يريده «آل سعود» من لبنان، والذي لا يبدو أنه منفصلٌ عما يجري في سورية.
بشكلٍ عام دعونا نتفاءل أن اتفاق وقف الأعمال العدائية سيصمد، وأن السوريين اقتربوا من حقن الدماء التي نتمناها جميعاً، وأن التفاصيل التي ستظهر هنا وهناك لن تؤثر كثيراً في المسار المرسوم، لأن أي مكابرةٍ هي خسارةٌ للجميع، وربما اجتماعات جنيف القادمة ستكون محصنةً هذه المرة بواقعيةٍ أميركيةٍ، تنطلق من بديهية أن الحرب على الإرهاب لن يستطيعوا إيقافها أيا كانت المسوغات، فلماذا لا يستثمرون سياسياً بممثلين عن تلك الجماعات التي قبلت وقف الأعمال العدائية. إنها بالمطلق تبدو عملية تدميرٍ ذاتيةٍ لكل مكتسبات المعارضة وداعميها، أجاد الروس صناعتها دبلوماسياً مستفيدين من هذا الصمود السوري الأسطوري، لكن نتائجها المباشرة تحتاج لبعض الوقت لتظهر، بما في ذلك «غربلة الإرهاب»، تحديداً أن المشوشين كثر، وبمعنى آخر:
لكي يعي المواطن السوري ماذا كان يراد له، وما سيحققه من هذا الاتفاق وهو الذي دفع غالياً ثمن هذا الصمود الذي أدى إلى هذه النتائج، ليس عليه أن ينظر لحجم التخبط الذي أوصل وزير خارجية أحفاد شخبوط لدرجة المساواة بين «داعش» و«الحشد الشعبي»، ولا تنظروا لتخبط وجنون «آل سعود» لدرجةٍ بات فيها ما يتم التحضير له في لبنان وكأنه ردة فعلٍ على ضياع أوراقهم في سورية، عليكم أن تنظروا لوجوه قوى «الرابع عشر من آذار» وهم يوقّعون على وثيقة المناشدة والتذلل لمملكة البترودولار المفلسة، ولا تكتفوا فقط بتكرار عبارة «الحمد لله على نعمة العقل»، بل هناك ما هو أهم.. «الحمد للـه على نعمة الكرامة».