مراميات ومرامي الشعر.. وأشعلت الغرام بقفر عمري
| إسماعيل مروة
كان العجيلي شاعراً وقاصاً وطبيباً، وكان إبراهيم ناجي وعلي محمود طه المهندس، فكانت لوثة الأدب أعلى من أي شيء، ويتفوق العلميون في مجالات الأدب والإبداع أكثر من تفوق المتخصصين في الأدب ودراسته، وطرحت كثيراً مسألة الإبداع، وما إذا كان دارس الأدب أكثر إبداعاً من غير المتخصص! ليس مطعناً في دارس الأدب ألا يكون مبدعاً شعراً وقصة ورواية، فدراسة الأدب وتخصصه شيء، والتفوق الإبداعي شيء آخر، وإن صحت الموازنة، فإنها يجب أن تتم في إجادة التخصص كبحث وتعمق، وأخذ هذه الإجادة إلى إجادة ذلك الإنسان غير المتخصص في ميدانه.
مرام دريد النسر شاعرة شابة سورية، معتدة تشعرها ومنهجها، تتمسك بالقصيدة كما جاءت عن العرب، تدافع عن القصيدة والوزن والقافية كما لا يفعل دارس الأدب، فقد ملكت مرام مفاتيح الشعر المتعددة، أولها الموهبة القادرة على صياغة نص شعري متميز، وثانيها امتلكت مرام المعرفة الشعرية، والعروضية كما لا يفعل متخصصون، وثالثها روح تائقة إلى القصيدة الشعرية كما يجب أن يكون الشعر، ورابعها العين اللاقطة للومضة الشعرية التي تعرض أمامها، فتقوم على تسجيلها وتدوينها، بل حفظها.
الطب والشعر
الذي دفعني لهذا الكلام أن الشاعرة مرام النسر طبيبة درست الطب وتفوقت قبل دراسته، وهي متفوقة بعد دراسته، وهي شاعرة شابة واعدة، أصدرت مجموعة شعرية أولى لقيت قبولاً عند النقاد والقراء، وها هي تصدر مجموعتها الثانية ضمن سلسلة (إبداعات شابة) وبالرقم الأول التي تصدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وحملت اسم (مراميات) ولك أن تدرك مقدار اعتداد الشاعرة بذاتها وبشعرها وباسمها حتى تجرأت على إطلاق اسمها على مجموعتها، وهي الشابة الصغيرة التي وقفت ترثي أباها الراحل نيابة عن الأسرة، فلم تنس أن تعده بدراسة الطب كما كان يأمل، ولم تكن قد اجتازت المرحلة الثانوية، ووعدته في رقدته أن تصبح شاعرة كما كانت تأمل حين تسمعه أشعارها وكلماتها.. وها هي اليافعة مرام تفي بوعدها وتدرس الطب لتداوي الناس، لعلها تنجح في إنقاذ حياة غالية بعد أن عجز الطب عن إنقاذ والدها! وها هي تصدر مجموعة تتبعها بأخرى، وأظن أن لديها أكثر من مجموعة جاهزة، وهي الطبيبة التي لا تتحدث بغير الفصيحة، وبعناد اعتداد يدعوك إلى الإعجاب في خلق استوى من تلقاء ذاته.
حب ووجدان ووطن
بدأت الشاعرة الشابة مرامياتها هذه بمقطوعة غزلية مفاجئة في صراحتها وجرأتها وقوة صورتها
لله در رحيقه كيف اصطفاه؟ قاومت قبل مجيئه كل الشفاه
أقلعت عن حب الزهور ولم أعد
من بعد ذاك الطيف أحلم بالمياه
ما هزني يوماً لأكتب جملة
إلا ضرام العشق متقداً سناه
بهذه الروح أظهرت الشاعرة أن دافعها إلى الشعر، وحافزها إلى الكتابة هو ذاك العشق الذي واجهته وطالعت سناه، وعلى الرغم من أن الشاعرة اختارت الشعر التقليدي، إلا أنها قدمت صورة تعود بنا إلى النغمة النزارية العميقة معنى وتأثيراً.
كما تنوعت قصائد المجموعة بين الغزلي الذي افتتحت به، والوجداني الذي تزاحم في المجموعة، والوطني الذي جاء مقنعاً ومهماً، لأنه امتزج بالوجدان، فلم تطلق صيحات وطنية وقومية وسياسية بشكل مباشر، وإنما غمست شعرها بالوجدان، فقدمت صورة ذاتية تمتزج بالآخر لتشكل وطناً مشتهى:
توارى اللحن عن شفتي
وظلم الناس أعياني
رحلت عن الديار فما
أنخت بغير أوطاني
وما أدمى الفؤاد سوى
الحبيب وخضرة البان
أنا لا أرتضي وطناً
سواك فأنت وجداني
معاذ الله تنسيني
الخطوب رحيق إحسان
بلاد العرب أوطاني
بلاد العرب أوطاني
للتمسك بالأرض
على الرغم من شبابها، إلا أن وعيها العميق استطاع أن يقدم صوراً لا تذهب من الخاطر لما يجري على أرض سورية، وتبتعد كذلك عن أي إعلان يمكن أن ينفر، لتقدم إحساس الإنسان المنتمي إلى أرضه وترابه، ولنسمع إلى حكمة الشاعرة الشابة التي رأت ما عجز عنه استيعابه الشيوخ الكهول.
هنا أرضي
تنوء من الجراح ولا تراك بقارب العَودْ
وتبحث عنك في كل الأماكن
لست تسمعها؟!
ألا تشتاق مبسمها الندي
وحمرة الورد؟
لمن تمضي؟
ستدرك بعد أيام الفراق
فداحة البعد
وتمسك بين جنبيك الفؤاد مخافة البرد
ستذكر دفء أضلعها
ونوراً كان يتبعها
ستشقى في الغياب ولن تذيب غمامة السهد
فلا تمض… فلا تمض
دعوة صادقة إلى الشباب أمثالها بأن يتمسكوا بهذا الوطن، وألا يغادروه مهما كان السبب، فالبرد سينهك المسافر المبتعد حين يفتقد وطنه..
مرام النسر شاعرة متمكنة من أدواتها وشعرها، بل موضوعاتها، وها هي تقدم موضوعاتها بعمق وبراعة، مهما كان هذا الموضوع حاراً وشائكاً، وقد استطاعت أن تنجو من مطب المباشرة والخطابية إلى كثير من التأمل
ولنودع الشاعرة للدخول في مجموعتها بعمق
بعيداً عن الحب والمنتظر
بعيداً عن الدار
ما من دروب
تردد لحني ولا مستقر.