بلد واحد هو العالم
| حسن م. يوسف
رغم أنني نذرت حياتي للأدب والفن، إلا أنني كنت دائماً أحترم العلم، وقد كتبت لسنوات في مجلة متخصصة بالحاسب كي أعبِّر بلغة الأدب السلسة عن بعض الموضوعات العلمية المعقدة. إلا أن كل معلومة كنت أحصل عليها في مجال علم الوراثة كانت تزيدني إحساساً بجهلي. رغم أن فضولي نحو هذا العلم لم يكف يوماً عن النمو، وخاصة بعد أن علمت أن الاختلاف بين الطاقم الوراثي للإنسان والطاقم الوراثي للشمبانزي هو 1 % فقط!
يقدر العلماء عدد المورثات التي يملكها الإنسان بين 50000 و100000جين توجد على كيانات دقيقة خيطية الشكل تدعى الكروموزومات وهي في نواة كل خلية من خلايا الجسم ويبلغ طول كل منها لو مدت بخط مستقيم من الأرض إلى القمر، سبعة أضعاف تلك المسافة بين الكوكبين.
صحيح أن ما اكتشفه الإنسان عن شيفرته الوراثية ما يزال محدوداً لأن فهم وظيفة جين واحد يحتاج إلى عمل عالم طوال حياته. إلا أن تقدم الأخيار في هذا العلم قد ينهي الكثير من الأمراض الوراثية، غير أن تقدم الأشرار فيه قد يبيد البشرية برمتها.
قبل فترة تم إجراء تجربة على مجموعة شباب من مختلف أنحاء العالم، طرح القائمون بالتجربة على المشاركين فيها السؤال التالي: من أنت حقاً؟ جاءت إجابات الجميع معبرة عن اعتزاز كل منهم بجنسيته: «أنا فخور بأني إنجليزي» / «أنا وطني بانغلاديشي» «أنا آيسلندي بالتأكيد». الفتاة الكردية عرضت صورة عرس أمها باللباس الكردي التقليدي / والفتاة السوداء عبرت عن فخرها ببشرتها الداكنة… إلخ.
سأل القائمون على التجربة المشاركين فيها: «هل هناك أمم أنت غير متصالح معها؟» ذكر الإنجليزي: «ألمانيا» وذكرت الكردية: «تركيا» وذكر البنغالي: «الهند وباكستان». على حين تباهى الآيسلندي بأهميته وتباهت الفرنسية بتفوق شعبها.
يشرح أحد القائمين على التجربة للإنجليزي آلية عمل الدي إن إي قائلاً: «أنت نتاج نصف أمك ونصف أبيك، وكل جزء صغير من أسلافك ساهم في تكوينك». ثم يطلب من كل مشارك أن يودع بعض لعابه في أنبوب اختبار، ويبلغهم أن قصة كل واحد منهم في ذلك الأنبوب، ويسألهم ماذا يتوقعون أن تكون نتيجة الاختبار؟ يؤكد الجميع أن النتيجة ستؤكد انتماءهم للجنسيات التي يحملونها. وبعد أسبوعين تظهر نتائج التحليل فيصدم الجميع. الفرنسية تكتشف أنها إنجليزية بنسبة 32 % والكردية كارهة الأتراك تكتشف أن بعض أجدادها كانوا أتراكاً من القوقاز، والإنجليزي كاره الألمان يجد أن 10 % من أجداده ألمان. أما الآيسلندي المعتد بنقاء عرقه فيجد أن أجداده قد جاؤوا من أوروبا الشرقية وإسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا واليونان!
الفرنسية تقول: إن إجراء هذا الفحص يجب أن يكون إلزامياً لأنه لو عرف كل شخص تراثه فلن يكون هناك تطرف لأنه لن يكون هناك من يعتقد بوجود عرق نقي!
يستنتج العالم المشرف على التجربة: «هذا يعني أننا جميعاً أبناء عم بالمعنى العام للكلمة، ثم يقول للفتاة الكردية: إن الاختبار قد كشف وجود ابن عم حقيقي لها في القاعة. «وبعد أن تلتقي الفتاة المذهولة ابن عمها العراقي تظهر العبارة التالية: «أنت مرتبط بهذا العالم أكثر مما تتصور» ثم ينتهي الفيلم بالتعليق التالي: «العالم المنفتح يبدأ بالعقل المنفتح».
نعم ها هو علم الوراثة الحديث يثبت صحة ما قاله الشاعر السوري القديم ميلاغر في القرن الثالث قبل الميلاد: «صُوْر كانت مربِّيتي / وجَدْرة، التي هي أتيكا، التي تقع في سورية، أنجبَتني. / فإذا كنتَ سورية أين هي الغرابة؟/ أيها الغريب، إننا نَقْطُن بلداً واحداً هو العالم، / وشيء واحدٌ أَنْبَتَ كلَّ البشر!».