البحث عن الوطن!
| عصام داري
أحمل وطني على كتفي، أتوكأ على حلم نخرته الأيام فصار بقايا حلم، أسير في درب جلجلتي وحيداً، أذهب إلى اللامكان، وفي زمان لا يشبه الأزمان، بحثاً عن هروب جديد، هجرة نحو المجهول، والإنسان عدو ما يجهل، لكننا نرى أن ما نجهل ربما يحمل لنا الترياق لأمراضنا التي كادت تفتك بنا.
الفقر في الوطن غربة، كما يقول الإمام علي، فكيف إذا كانت الغربة مقيمة داخلنا قبل الفقر وبعده، وفي زوايا العمر؟!.
تعبنا من مشاوير مشيناها على الأشواك والجمر، ولا شيء يوحي بأن هذه الدروب الوعرة قد شارفت على النهاية، بل ربما لم نبدأ بعد، وأصعب الأوقات هي تلك التي لم تأت بعد، بالإذن من الكاتب التركي عزيز نيسين.
المصيبة أن يحمل المرء وطنه على كتفيه، ويقرر الهجرة إلى المجهول، والمصيبة الأعظم أن نشعر في أواخر المشوار أننا مهاجرون منذ الولادة، لكنها هجرة من الداخل، ربما لأننا لا ننتمي إلى محيط فرض علينا، واسم وأسرة ومكان لم يكن لنا فيه القرار والاختيار.
مصيبة أن يختصر الوطن بجدران وسقف وأبواب ونوافذ، لكن المصيبة الأعظم والأخطر أنك تفقد خلال ساعات معدودات الجدران والسقف والأبواب والنوافذ، وحتى الخيمة الصغيرة التي قد تتسع لشخصين لا أكثر.
من هاجر لم يهرب من الموت المتنقل، والإرهاب الساحق الماحق فحسب، بل هاجر بعضهم لأنهم فقدوا البيت والأمان وراحة البال، وظلال شجر الوطن، وظنوا أنهم فقدوا الوطن، فراحوا يبحثون عن خيمة تظللهم وتحميهم من غوائل الزمان، ، وبطش الإنسان، أو من يظن، ونظن، أنه إنسان، صار همهم البحث عن خيمة بحجم وطن، أو وطن بحجم خيمة!!.
التوحش صار شبحاً يطاردنا، تارة على هيئة إرهاب كنا نجهل أنه موجود في هذا العصر «المتحضر!» وتارة أخرى على شكل أشخاص يرتدون «السموكن» ويمارسون إرهاباً من نوع خاص قوامه الاحتكار ورفع الأسعار الهائل، ويمصون دماءنا بشهية يحسدون عليها، ويكدسون الذهب والفضة والبنكنوت في مصارف لا تصل إليها القوانين، كجزر كايمان!!.
نعم.. في هذه الأجواء الكالحة والتربة المالحة، والناس القاحلة، لم يعد أمامنا إلا أن نحمل الوطن على أكتافنا، وفي قلوبنا، ونبحث عن الهجرة إلى الخارج بعدما كنا لسنوات طويلة خلت نهاجر إلى الداخل، إلى دواخل نفوسنا، ونسجن أرواحنا في قمقم الحلم حتى صارت الأحلام أبشع كوابيسنا.
لم أغفر للمهاجرين ذنب مغادرتهم الوطن و«ترك الشقا على من بقا» كما يقول المثل الشعبي، لكنني اليوم أجد العذر لهؤلاء، لشركائي في الوطن ولو باعدت بيننا المسافات، لأنهم فضلوا الموت غرقاً وخنقاً وقهراً، على الوقوف على بوابة الموت جوعاً على حين يهضم دمهم ولحمهم وعرقهم حفنة من الفاسدين والمفسدين في الأرض وتجار الأزمة وكل من يتحالف معهم، وهم كثرة!.
كل أصدقائي يعرفون أن أكثر الناس تفاؤلاً في هذا الوقت العصيب والرهيب، لكنني اليوم كتبت من داخل جرحي وجروح فقراء بلدي، ربما هي «فشة خلق» وربما لن أتخلى عن تفاؤلي في المستقبل، ومن يدري.. و«ضبوا الشناتي»!!.