بين القبر والبحر عصّة والميت واحد … هزوان الوز في مجموعته .. هموم الحرب ومجتمع وصل إليها بتدرج
| إسماعيل مروة
«عصة بحر» مجموعة قصصية جديدة للقاص والروائي هزوان الوز، صدرت عن اتحاد الكتاب العرب منذ أيام، تضم ثماني قصص، اثنتان منهما طويلتان، وست قصص قصيرة، وفي هذه المجموعة يتابع الوز كتابته القصصية التي تسعى إلى تهذيب الوجدان، وتحليل البنية الاجتماعية والتربوية والفكرية، أكثر من سعيه وراء الفن القصصي كفن، ويبدو أنه من المؤمنين بأن الأدب رسالة، ولا يزال يعتقد أن الأدب يمكن أن يحدث تغييراً، لذا هو في أدبه، وفي هذه المجموعة تحديداً يغلّب الجانب الفكري على الجانب الفني، ويضع خلاصة تجربته العملية في نص ينقله إلى القارئ محملاً بكثير من الرسائل التي تستدعيك أن تعيد النظر والتأمل أكثر من إبهارك بالفن القصصي، مع أن القاص الدكتور الوز قدم قصة فنية عالية، والحديث عن الرسالة الفكرية من باب تغليب هم الكتابة لا غير..
الصوت والحرية
لم يجنح الوز وهو يعدّ مجموعته إلى موضة الأزمة السورية والحرب على سورية، وإنما عالج الموضوع ذاته من خلال مداليل مجتمعية، هذه الإشارات هي التي أوصلت إلى (عصة بحر) أو غصة إنسان وبحر وهو يبتلع الأحباب الذين غادروا ليسكنوا بطون كتب وذاكرة، وفي النصين الأولين يخرج علينا القاص بفكرتين طريفتين قديمتين، لكن اليقين بأن المجتمع لا يزال يقف عند حافة الانتقال إلى منطقة أخرى ولم يفعل جعله يقف عندهما، ففي قصة الديك قدم قصة تتناول مجموعة قضايا منها: المتحفية العلمية، العناية بالحيوان، مجتمع الذكورة ومفهوم الديكة، الصراع بين ديكين أحدهما إنسان متسلط والآخر ديك عاجز، النظرة إلى الديك المنتوف الريش، ولنا أن نتخيل أبعاد الريش المنتوف، عذوبة الصوت لدى الديك وأهمية وجوده، وخطورة أن تكون الحياة بلا نغم ديك، استمرارية الحياة، وقدرة التجدد الذي يتحدى الظروف والمواقف…. فالمدعوم الذي يكره الديك استطاع لجبن الإنسان أن يصمت الديك عن الصياح وفق ساعته البيولوجية إلى أمد محدد، شعر بانتصاره على الديك الصامت الدامع المنتوف، لكن نقلتين حصلتا فالمنتوف انتقل إلى مكان قريب ليستعيد صوته وحريته، ومن فصح يسوع يخرج صوص ديك ليكبر ويملأ الدنيا صياحاً عذباً يشبهه.. والكون يعجز عن إسكاته.
أما الوصية، وهي القصة الثانية، فهي كفكرة تعود إلى قصص النصف الثاني من القرن العشرين، وتتملكك الدهشة عندما تقرؤها، لكن معالجتها من قاص مطّلع يدل على أنها فكرة لا تزال موجودة، وربما عادت إلى واجهة القضايا، وهي قضية حرية المرأة في الخيار، وبالتالي حرية الفرد بأن يصل إلى غاياته التي رسمها.
وفي الوصية يدخل القاص في تلافيف القضية من دون أن يغرق في تفصيلات المتابعة من الأخ الذي تبع أخته من محافظة أخرى، ولعل الصورة الأكثر جمالاً في القصة هي توصية المديرة التي نقلت منها الشخصية البطلة للمديرة الجديدة، والتي لم تأخذ بها، وإن كانت على حذر، وتابع الكاتب تصرفات المعلمة المنقولة بصدقية، ليظهر ذاك التناقض في شخصيتها والذي دفع إلى أخذ هذه النظرة عنها في المدرسة السابقة، هذه التصرفات التي اتسمت بالغرائبية، وتنتهي القصة بوصية تتركها المعلمة التي آثرت الشرح كتابة، وبين وصية وتوصية تعاني المعلمة المرأة من المجتمع أسرة وعملاً.
عصة بحر… عصة وطن
ما بين عصة بحر القصة، وبائع الكتب تتربع في المجموعة عصة وطن، وفي هاتين القصتين لم يستطع الكاتب وهو المراقب العارف ببعض التفاصيل أن يشيح الوجه عما يجري على أرض الواقع، وقد استعان بما عرف وما سمع وما يعرض على الشاشات لتصوير معاناة السوريين اللاجئين الذين يمتطون البحر للوصول إلى غاياتهم في الهروب من الحرب، وقد حاول الكاتب أن يكون محايداً في عدد من المواقع والحوارات:
«علق أبو فراس: أن تموت مرة أهون بكثير من أن تموت مئات المرات، والله مع كل موجة أرى عزرائيل.
ومن دون أن يرفع الرجل معروق الجبين رأسه: يا رب أخذوا البر فليتركوا لنا البحر.
سألته: من أخذ منك البر؟
قال: الكل يا عمي الكل، لا يهمني من يقول قلبه عليّ، يهمني ما صرت أنا فيه، لا بيت.. لا امرأة.. لا ولد… لا وطن… لا شيء…
يا عمي أصبحت كمثل الحمار الذي يركبه رجل وأحسّ أن خلفه لصوصاً، فلكز الحمار يستعجله، سأله الحمار ما الأمر؟ قال: لصوص يريدون اللحاق بنا، سأل الحمار ثانية، ولم أنت خائف؟ قال الرجل: إذا لحقونا فسيأخذونك مني!
قال الحمار: أنا لا فرق عندي أنت راكب وهم سيركبون…».
مفارقة مرة أن يرى الإنسان نفسه مكان الحمار، وألا يرى فرقاً بين راكب وآخر ما دام سيكون مركوباً، وثمة حوارات ضمن عصة البحر تتناول مفهومي العوايني، والمتعامل مع المسلحين، هذان المفهومان اللذان يلتصقان بالشخص نفسه، وفي الوقت نفسه، وفي القصة تشريح لعمليات التهريب عبر البحر إلى اليونان مروراً بتركيا… ولم ينس المؤلف- وهو المنطلق من رؤية وقناعة- أن يحمّل شخوصه بعض الآراء السياسية والقناعات التي من الممكن أن تقدم بفلسفة أقل ومصطلحات أقرب «هذا ما حدث مع أول ساعة من الحراك، وأصبحنا نغني مع كونداليزا رايس بالفوضى الخلاقة على حد زعمها، وبعد إسقاط الحجر الأول من السد بدأ تسليح الحراك وتطئيفه.
قال أبو فراس: ما الذي تقوله؟ هذا تخوين!
علق أبو العروق: لا تزعل إنها ليست خيانة مع سبق الإصرار والترصد».
وربما كان من الحكمة أن تجمع رحلة عصة بحر أكثر من طيف وأكثر من رأي ليرصد الآراء، ويقوم بنقل المشاعر والصور الأولى لما حدث في الحرب على سورية، وقد أخذ المبالغة في التنظير لجماعة في عصة بحر، فبعض ما جاء في القصة قد لا يأتي عليه محللون سياسيون، وفكرة القصة قد لا تحتمل… «إعلان دمشق وكواليسه، والطروحات التي كانت تسود اجتماعاته بدءاً من خطب ود أميركا إلى التركيز على دور الأكثرية المذهبية… إلى….
قال يسار: ولم يكن إعلان دمشق وحيداً في هذا التوجه.
قلت: لكننا كنا بحاجة للتغيير، فلقد بلغ البعض في النظام آماداً بعيدة في الفساد وقمع الحريات، و… و…
قال أبو العروق: صحيح والمخلص السعودية وأميركا وفرنسا وإسرائيل وقطر وتركيا.. حماة الحراك والثورة! ألا يلفتك أن هذه الجهات احتضنت الحراك وهللت له من اللحظة الأولى.
قال علاء: كنت أريد تغيير النظام ولكن لم يعد بمقدوري أن أتمنى شيئاً.
علق أبو فراس: لقد أصبحت سورية ساحة حرب عالمية، الكل يبحث عن نفوذ له يكبر هذا النفوذ أو يصغر تبعاً للدماء السورية المسفوكة…».
القصة بحاجة إلى قراءة متأنية، فنحن أمام محاولة جمعت شخصيات متعددة المشارب لتحديد وتحليل ما يجري في سورية، وما في القصة من حوار يقدم صورة للحوار الذي يجب أن يكون بعيداً عن الضجيج والانفعال، وأن يقدم كل شخص من الأشخاص رأيه سواء كان مع أو ضد، ولكنني أرى أن القصة قد لا تحتمل هذا الحشد من الآراء والتنظير، وهي أقرب إلى التحليل منها إلى القص، ولكن يحمد للكاتب الذي يسعى لجرعة انتماء لسورية «اندفعوا إلى الزورق بما تبقى عندهم من قوة أتى الماء والخوف على أكثرها… أحدهم غطت الدماء وجهه، كان مصاباً بجرح غائر في رأسه، وردد غير مرة: سأموت ولا أعرف إن كنت سأدفن في سورية.
فوق الموتة عصة قبر..
فوق الموتة عصة بحر…».
يحمد أن يقدم هذه الآراء بمجملها، مع أو ضد، ويشرّح فيها، ومع أن انحيازه واضح إلا أنه سمح لذاته المبدعة أن تقف في مكان ما تعالج ما يجري وتدافع وتناقش وترد، من دون أن يمنع وجهة النظر التي يرفضها في قناعاته.
وحيد الظل متعدد الغايات
قد يكون الكوكب وحيد الظل، قد يكون الإنسان، قد وقد، لكنه وحيد الظل مهما تعدد والغايات شتى «ستوزعون على أصقاع الدنيا أو على بعض أصقاع الدنيا» حوار يدور بين عالمي الشمال والجنوب، يشهد الهجرات والحروب والتهجير «وبعد عودتكم ستكونون عوناً لنا على ما نريد، وما تريده الشعوب، إيفان، يوهان، أحمد، أبو قتادة في نص واحد عرف وجوهاً عديدة يروي ما يحدث في العالم، يستحضر الفتاوى التي تصدر عن جهلة محاولاً تفنيدها، ويحشد الكاتب مجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية في مساحة مؤرقة، وقد جمع المتناقضات في مكان واحد، وكأنه بذلك يجمع أقطاب الشر من كل مكان، ليظهر تآمرهم على المكان والإنسان، وما يجري حقيقة على الأرض غير ما يتم في الغرف، وتبعية كل هؤلاء واحدة، وإن تعددت مشاربهم، وكل منهم يمارس حياة غير التي يجري بها على الأرض فداعي الحرية لا علاقة له بالحرية، وصاحب اللحية ليس أكثر من فرد ينفذ ما يتم الاتفاق عليه ليختم بنص رابع «في صباح اليوم التالي كانت سفينة أخرى تمخر عباب المحيط، وفي طرف آخر من الأرض وبشكل يتماهى مع المضمون ثلة من الجنود أمام نصب الجندي المجهول تؤدي التحية، على عكس تمثال الحرية في أميركا الذي يواظب على كونه شكلاً يخون المضمون».
«عصة بحر» مجموعة قصصية للقاص هزوان الوز تحاول الغوص في عمق الأبعاد الاجتماعية لمجتمعنا وتقدم رؤية متعددة الغايات لما يجري من حرب على أرض سورية يذهب ضحيتها الوطن والإنسان.