بعد دراما الانقلاب… تركيا إلى أين؟
| د. قحطان السيوفي
إن قراءة متأنية في تاريخ تركيا تظهر أن أزمة عصفت بالسلطنة العثمانية ولم تنتهِ مع الكمالية التي فرضت العلمانية في تركيا، خليط من طوائف، ومذاهب، وإثنيات… استطاع أتاتورك جمعها في دولة واحدة… وفرض عليها التوجه غرباً لـ«التخلص من التخلف»، حسب قوله… رأى الباحث التركي (حاقان بهايدغر) أن تركيا التي تحولت من إمبراطورية إلى دولة ؛ ما زالت الهوية فيها طور التكون تبعاً لعوامل داخلية وخارجية… الجيش التركي، الذي بناه أتاتورك من حطام الإمبراطورية العثمانية، والذي عقيدته المحافظة على علمانية الدولة، تراجع في ثمانينيات القرن الماضي نسبياً عن تشدده…. أيد الإسلاميون انقلابه عام 1980… وسمح لحكومة بولند أوسلو (1980) بتبني الايديولوجية الدينية… حكومة تورغوت أوزال 1989 قامت بدمج الديني بالسياسي… ثم جاء أردوغان ليطرح مع داود أوغلو مفهوم العثمانية الجديدة. لأنهما وجدا أن العودة إلى زمن السلاطين غير ممكنة… وكانت العزلة التي وقعت فيها أنقرة. داخلياً وخارجياً… الانقلاب الأخير الذي يقوده أردوغان، طرد فيه أكثر من خمسين ألفاً من الجيش والقضاء، والجامعات، وأعلن حال الطوارئ لاستكمال انقلابه على مؤسسات الدولة والمجتمع ما سيقضي على ما تبقى من علمانية أتاتورك، حتى لو اتخذ قراراته تحت صورة أتاتورك. ولاستكمال أردوغان مشروع الأخوان المسلمين عليه أن يخوض معارك داخلية كثيرة، وربما انقلابات… فضلاً عن مواجهة الأخطار المحيطة به، من العراق وسورية، والجرح الكردي النازف منذ الثمانينيات.
بعد الانقلاب أنكر وزير خارجية أميركا كيري علم إدارة أوباما بأي دور قام به اللاجئ السياسي غولن في الانقلاب وهذا الأخير أعلن في مؤتمر صحفي، تبرؤه من أي علاقة بالانقلاب. ووصف تصرفات أردوغان بأنها مماثلة لتصرفات روبسبيار، المستبد الظالم الذي خطف الثورة الفرنسية.
رئيس نقابة المحامين التركية اعترض على سرعة إصدار مذكرات الاعتقال بحق 140 عضواً من المحكمة العليا، و48 من أعضاء المجلس الدستوري، و2745 قاضياً ومدعياً عاماً. إضافة إلى توقيف آلاف العسكريين والمدنيين…. ويُستفاد من هذا كله أن خطة الانقلاب كانت جاهزة بكل تفاصيلها، وفق ما صممها ونفذها رئيس مخابرات أردوغان…. الرواية الأردوغانية ركيكة… وهذا يضعنا أمام مفارقة… الإخوان المسلمون في مواجهة من يشبههم في الدعوة.. أردوغان يعمل في السر والعلن لتدمير الدولة العلمانية التي بناها أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، وإنشاء سلطنة عثمانية جديدة. واستغل المحاولة الفاشلة لتصفية حسابات شخصية… وإعلان أردوغان قانوناً للطوارئ لثلاثة أشهر تكفي ليتخلص من معظم خصومه السياسيين، وتتيح له التحرر من سلطة البرلمان وسن قوانين تتماشى مع أهدافه ونزعته الفردية الدكتاتورية… والهيمنة على القضاء. وتحول تركيا مجدداً بلداً مريضاً كما كانت الحال في الحرب العالمية الأولى… إن التغييرات التي طاولت العسكر ومؤسسات أمنية وجهاز القضاء ووسائل الإعلام…. ولدت امتعاضاً وغضباً، وزرعت الضغينة والحقد، والمزيد من الانقسامات والتطرف، وأفرغت المؤسسات من قادتها وكفاءاتها ما يشكل تهديداً لمستقبل الدولة… وخاصة ما أصاب ويصيب المؤسسة العسكرية التي خرجت منقسمة على نفسها. وهي آخر مراكز القوى التي تتمسك بالعلمانية هوية وعقيدة، وإشغالها بصراعات وتصفية حسابات… في جو من الإحباط والغضب والشعور بالإذلال… بالمقابل أصبحت لدى الغرب أسباب للقلق حول الوجهة التي تتجه إليها تركيا. هناك إحساس سابق، قبل دراما الانقلاب، بأن تركيا، يمكن أن تتوقف عن أن تكون لاعبا ضمن تحالفاتها الغربية…. وبدأ أردوغان يفكر بالانضمام إلى تحالفات أخرى، مثل التحالف الاقتصادي اليوروآسيوي، أو منظمة شنغهاي للتعاون…. كما سبق لأردوغان أن حاول تصحيح علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل وروسيا، حتى إنه بدأ بعملية جس نبض للتقرب من سورية… إن الانقلاب سيعجل بتوسيع الخلاف بين تركيا والاتحاد الأوروبي حول الحريات والقانون.. والآن يبدو كأن اردوغان يحاول المقايضة مع واشنطن بين قاعدة إنجيرليك، والمطالبه بتسليم فتح اللـه غولن.
من ناحية أخرى أصبحت «داعش» خطراً يهدد تركيا بسبب سياسة التساهل التي اتبعتها أنقرة مع الإرهابيين الذي يعبرون إلى سورية… عملية داعش الإرهابية الأخيرة في مطار إسطنبول دليل على ذلك…. أردوغان الذي طالما دعم داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى… لايزال يعتبر «داعش» مجرد تهديد أمني… باختصار أردوغان، أمعن في تصفية خصومه داخل حزبه وفي الجيش والقضاء والإعلام وانتهك كيان الدولة وهيبة مؤسساتها واهتزّت آماله بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي… وأقام أسوأ العلاقات مع جيرانه.
«سلطان أنقرة»، أردوغان الذي دعم الإرهاب في سورية، وقع في فخّ الدكتاتورية الفردية،. والخوف على الكرسي أعمى بصيرته وهو يقود تركيا إلى المجهول.