شخصيات سينمائية لا تمت للواقع بصلة … عين إخراجية تعتمد تجميل الأبطال وإضافة عناصر الإبهار
| ديالا غنطوس
منذ زمن بعيد عمدت السينما إلى تجسيد الأساطير والشخصيات التاريخية في أفلامها، ولا يخفى على أحد مدى قدرة تلك الأفلام على جذب المشاهد التائق إلى معرفة التاريخ وقادته، والراغب في العيش في حقبة تلك الأحداث التي صنعت عالماً نعيش به الآن، وكان للسينما ومخرجيها هنا دورها الكبير في صناعة الصورة التي ما لبثت أن أصبحت نمطية في أذهاننا، فالبطل لابد أن يكون وسيماً ممشوق القامة، جريئاً ومقداماً، شهماً وكريماً، ببساطة تتمناه كل امرأة تراه ويطمح أن يكون مثله أي شاب، أما عن النساء البارزات فقد تم تجسيدهن بعالم السينما بصورة الأنثى الفاتنة، الذكية، صاحبة الشخصية المسيطرة والتي يرغب الجميع في نيل رضاها، لكن للتاريخ رأياً آخر في ذلك، إذ يقول العديد من المؤرخين والمهتمين بالأمر إن السينما رسمت ملامح أبطال شخصيات أفلامها بصورة لا تشبه الواقع، وإنما زينته للمشاهد كي يقع في غرامه فقط..
من جملة العظماء الذين أتت بهم السينما إلى شاشتها العملاقة كانت الأميرة النمساوية النابضة بالحياة ماري أنطوانيت، من خلال أكثر من عشرين فيلماً كان أكثرها نجاحاً فيلم «ماري أنطوانيت Marie Antoinette» المنتج عام 2006 من إخراج صوفيا كوبولا والذي لعبت فيه الأميركية كريستين دانست دور البطولة، يسرد الفيلم قصة الأميرة الصغيرة ماري أنطوانيت مذ تزوجت الملك الفرنسي لويس السادس عشر وهي في سن الرابعة عشرة وهو يتقدمها بعام واحد من العمر، تبدو ماري أنطوانيت في الفيلم متفاجئة بالفساد الذي ينهش العالم الأرستقراطي الذي دخلته، لكنها تتخطى ذهولها وريبتها من ذلك الصخب بدعم من والدتها ماريا تريزا، وعبر اللهو مع صديقاتها الجدد، لكن معاناة ماري أنطوانيت تفاقمت بعدم إنجابها ابناً لزوجها يرث حكم فرنسا من بعده، إلى أن قامت الثورة الفرنسية وتتابعت الأحداث إلى أن انتهت حياة ماري أنطوانيت نهاية مأساوية بإعدامها بالمقصلة. وعلى الرغم من فوز الفيلم بسبع جوائز عالمية، إلا أن النقاد لم يتجاهلوا إغفال الفيلم للكثير من النواحي السلبية في شخصية ماري أنطوانيت وفي طريقة عيشها، فقد عُرفت بأنها غاية في الطيش كما الكسل، ولم يكن لديها اهتمام بالتعلم ولا بالأعمال الأدبية التي حفل بها ذاك الزمن، كما اشتهرت بهوسها بإنفاق وإسراف الأموال على اقتناء الثياب والجواهر ولعب القمار والتسكع في الملاهي والمراقص، وذلك في خضم الأزمة المالية التي أنهكت فرنسا، لدرجة أصبحت فيها مكروهة من الشعب خصوصاً بعد معارضتها ومقاومتها للتغييرات الثورية، وقد عُرفت حينذاك بشخصيتها المؤثرة وتسيُّدها وأنها الحاكمة الفعلية للدولة بسبب ضعف شخصية زوجها الملك لويس السادس عشر، فكانت صاحبة الكلمة العليا إلى أن أطاحت بها الثورة الفرنسية. لذا، وكغيره من الأفلام، أغفل الفيلم كل تلك السلبيات بُغية إظهار ماري أنطوانيت بهيئة الأميرة الفاتنة آسرة القلوب، فتنال بذلك إعجاب مشاهدي الفيلم ويحقق صُناعه الرواج المنشود.
حدث ذات الأمر في فيلم «كليوباترا Cleopatra» المنتج عام 1963 من بطولة البريطانية إليزابيث تايلور التي جسدت شخصية الملكة المصرية القديمة كليوباترا، تطرق الفيلم التاريخي إلى الانتصارات التي حققتها كليوباترا قبل وعقب توليها حكم مصر، كما المآسي التي واجهتها طوال مشوار حياتها، بما في ذلك قصة الحب التي جمعتها مع مارك أنطونيو القائد العسكري الروماني بعد مقتل زوجها الإمبراطور يوليوس قيصر. لكن أهم المآخذ على الفيلم كانت حول روايته لقصة كليوباترا من منظور أنثوي بحت أي إنها مجرد امرأة فاتنة ومغوية، في حين لم يلقِ الضوء على أبعاد شخصيتها الإيجابية منها والسلبية، فقد امتازت كليوباترا بحنكتها السياسية وتوازنها وذكائها الحاد ودهائها في وضع خطط الحروب، في حين أنها لم تمتلك الجمال المبهر بالصورة التي جرى تقديمها بها، وما يثبت ذلك هو التصوير الذي ظهرت به كليوباترا على قطع النقود المعدنية القديمة، فنرى أن لها أنفاً مدبباً وذقناً حادة وتعابير غريبة في وجهها وذلك لا يتفق مع المقاييس المتعارف عليها للجمال، دفعها ذلك في الواقع لإنفاق وإهدار نصف الناتج المحلي لدولة مصر حينها على الاهتمام بجمالها وهيئتها وشعرها واقتناء الملابس الثمينة لتعويض ما ينقصها من جمال.
لكن عملية التجميل العظمى التي أنجزتها هوليوود ونجحت بها كانت في فيلم «قلب شجاع Braveheart» من إخراج وبطولة النجم ميل غيبسون الذي جسد شخصية البطل الاسكتلندي ويليام والاس الذي ناضل وقاد أولى الحروب لاستقلال اسكتلندا عن إنكلترا في القرن الثالث عشر الميلادي، كانت رغبته بالانتقام لزوجته التي تعرضت للاغتصاب من جندي إنكليزي بمنزلة شرارة ثورة انضم إليها الأهالي الذين عانوا ظلم الإنكليز، ليس هناك من خلاف على روعة الفيلم والإبداع في إخراجه، إنما الجدل يدور حول المغالطات التاريخية التي يصعب تجاوزها، ولو أن أحداث الفيلم في إطارها العام حقيقية، إنما التفاصيل تخبرنا عكس ذلك، فالمعلومات متضاربة حول مكان ولادة ونشأة ويليام والاس لكن أكثرها ترجيحاً قالت إنه ابن رجل إقطاعي صغير يدعى مالكوم والاس، وهو ينافي ما شاهدناه بالفيلم أنه من فقراء الشعب، كما اتجهت بعض الآراء لوصف والاس بأنه كان متوحشاً ومجرم حرب، وأن طرفي حرب الاستقلال الاسكتلندية الأولى قاما بحرق وتدمير المدن وقتل وتشريد سكانها الآمنين، وأن والاس ذات نفسه أحرق وخرب وقتل السكان الآمنين في القرى الحدودية الإنكليزية كما فعل الإنكليز بالقرى الاسكتلندية، وما يؤكد هذا الادعاء هو تصريح مخرج ومنتج العمل ميل غيبسون حين علق على فيلمه قائلاً: «إن والاس الحقيقي كان همجياً، وكان يحرق قرى الناس ويدمرها، وشخصيته تشابه من يطلق عليه الفايكينغ اسم (المسعور)، فلم يكن والاس لطيفاً كما ظهر بالفيلم، وقد جعلناه يبدو بهذه اللطافة لأنه الطرف الطيب في الفيلم بمواجهة الطرف السيئ القاسي المتمثل بالإنكليز».
مما سبق نصل إلى استنتاج حتمي، أن من يرد التعرف على إحدى الشخصيات التاريخية والاطلاع على صفاتها أو سيرة حياتها، فما عليه سوى الابتعاد عن الصورة النمطية المعلبة التي تقدمها السينما لجمهورها، فهناك العديد من المراجع التاريخية والأبحاث المتخصصة لم ولن تجد لها مكاناً على الشاشة العملاقة.