ثقافة وفن

رؤى على أشرعة الفجر.. حين الكلمات التهبت … د. نجاح العطار في الفكر والوجود.. المعرفة والجوهر.. الروح والمادة

| إسماعيل مروة

تمثل الكلمات والأقوال في مراحل متعددة، سواء كانت هذه الكلمات رسمية أم غير رسمية رواسم للمرحلة التي أنجزت فيها، ومعالم للمستقبل الذي يتم التخطيط للوصول إليه، كما تمثل صورة واقعية لما تعيشه الأمة في الوقت الذي قيلت فيه، وأزعم أنها مع السيرة الذاتية تشكل سيرة علمية للأشخاص تساعد في تحديد الخطوط الدقيقة لتاريخ تلك الحقبة، وخاصة إذا كانت صادرة عن إنسان فاعل ومؤثر في سيرورة الحدث، فكيف إذا كان هذا الإنسان متعمقاً، ومكتفياً بباب تخصصه يخلص له ولا يتجاوزه إلى ميادين أخرى تبعثر جهوده، وتجعله غير محدد المعالم، فيذهب الأثر، وتضيع الجهود هباءً؟!
الأستاذة الدكتورة نجاح العطار المهمومة بالثقافة والأدب منذ عقود عديدة، والتي حملت على عاتقها مهمة العناية بالثقافة والمثقفين منذ ما يقارب خمسة عقود، تدون رؤاها وقد حملتها على أشرعة الفجر والأمل، وبهذا التوثيق تبعد الدكتورة العطار عن الأذهان أي مجال للتأويل أو التزيّد الذي من الممكن أن يتسرب إلى الحديث عن مرحلة من المراحل.. وقد أنجزت الجزء الأكبر من مشروعها الثقافي والفكري الخاص والعام في الوقت نفسه، وكان أحدث، وليس آخر ما أنجزته كتابها الجديد (رؤى على أشرعة الفجر… حين الكلمات التهبت وتوهج الكفاح) فماذا قالت فيه؟ وما الرسائل التي تريد إيصالها بعد رحلة ثقافية متوازنة وذات اعتبار وثقل، هي الأطول والأكثر نصاعة بين رحلات المعنيين بالثقافة وشؤونها ليس في سورية فقط، بل على المستوى العربي وربما أكثر- حسب معرفتي-؟

أشرعة الانطلاق والغاية

لا تعنون الدكتورة العطار كتبها التي تصدرها بعناوين رائجة وجاذبة بقدر ما تبحث عن عناوين معبرة ومؤدية للرسالة الفكرية التي تريدها في هذا الكتاب أو ذاك، والكتاب الجديد الصادر يصدر وأشرعة الفجر اليوم تلوح في الأفق، ومستقبل سورية بدأ بالظهور مرسوماً على أشرعة وطنية أقسمت بالوطن وما فيه، وهي في الوقت نفسه رحلة ثقافة في عقود زادت على الخمسة تحاول رسم سياسة ثقافية فاعلة ومؤثرة وتأخذ دورها كما يجب أن تكون متجاوزة الواقع، وهي أشرعة جاوزت الحديث عن مرحلة تتغنى بها، بل تأتي الأشرعة تتويجاً في رحلة سورية الثقافية، وهي اليوم تأخذ رواسمها التي وضعت لها قبل عقود، والتي أخذت مدى ودفعاً من القيادة، ولا تزال تحظى بدعم غير محدود بإيمان القيادة بالثقافة ودورها في التأسيس لمجتمع سوري وعربي فيه من الوعي والتميز الكثير، وخاصة في عناصر العنوان المختارة: الرؤى، الغد، الكلمة القادرة، الكفاح المتوهج، فكيف عبرت فصول الكتاب ودراساته عن هذا العنوان المعبر والموحي؟

الثقافة السورية والآخر
بعد حقبة، وربما حقب تطاولت كانت فيها الثقافة السورية غائبة عن مسرح الأحداث الداخلية والعربية والإقليمية، جرى العمل الحثيث على إنتاج عملية من التواصل الثقافي المثمر، لرفع مستوى الفعل الثقافي داخلياً، وهو الأكثر أهمية، ومن ثم التفاعل مع المحيطين العربي والعالمي، وكان ذلك وفق خطط مدروسة، والدراسات المجموعة في كتب سابقة للدكتورة العطار، وفي هذا الكتاب تظهر رسالة الثقافة كما أريد لها (الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية، السمكة والتماسيح، على اسم المدينة المحررة، سورية والمقاومة، عندما تنتفض الأرض، إنهم يقتلون الأطفال، ليصمتوا ما شاؤوا، كلمات وداع، تحية لمؤتمر اتحاد الكتاب، المراكز الثقافية ليست بنى فوقية، التبادل الثقافي سبيل إلى امتلاك المعرفة، الثقافة هي المنبر الرفيع، المكان الأمثل على جبهة الفكر، غاندي، الأندلس، أهمية الصحافة بالنسبة للثقافة، العمل الأرشيفي، نهرو، حضارة كل بلد هي كنزه ومجده، تحية للسيدة كاسترو، الثقافة والمثقفون، المجد للكتاب، الثقافة أحد خيوط نسيجنا القومي، تواصل مفتوح الأفق، سر خلود أمتنا، فهم أرحب وتقارب أكبر، رجل ثقافة وفكر، سورية منبع حضارات العالم، الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، إنجازات إستراتيجية، الثقافة مفهوماً وحواراً، قراءة حول قراءة في كتاب الأمير، مشاركة العرب الجليلة، منظور لا حدّ لمداه، تحية إلى العمال، القومية والوحدة واللغة، الثقافة وحدها تمتلك مفاتيح التقدم، الثقافة في عاصمة الثقافة، المحبة والسماحة، من أجل حماية الانتفاضة، المجد النابت على راحة الصحراء، التوازن الدولي، إشكاليات الحقوق الثقافية، الضرورة الماسة لتعليم طليعي، في موكب العلم وإشراقة الثقافة، حدود السياسة تتداخل مع الثقافة، المجد لك يا قائد الوطن، فلسطين أمس اليوم وغداً، حلب أيتها البهية) ومن هذه العناوين والدراسات التي وردت يتضح لنا أن العمل الثقافي جرى على التأسيس لثقافة سورية متميزة، على الصعيد المحلي، ويظهر ذلك من خلال دمج مختلف عناصر الفعل الثقافي في العملية الناهضة الرؤيوية لثقافة مختلفة، ومتميزة، وتعطي خصوصية لم تكن موجودة في الأصل، لذا ركزت د. العطار على الثقافة والعلم ومفاتيح التقدم وإشراق الثقافة وسوى ذلك من تجليات لا تفترق عن الثقافة ووعيها، وعن السياسة وفعلها، ومن تحديد دقيق وواع للعلاقة مع المثقف تقول بوضوح لتضع المثقف أمام مسؤولياته «التعامل مع المثقفين لا من منطلق احتوائهم، كما يقال، بل من منطلق إطلاق الحرية لكل منهم، كي يعبر، في أرحب وأعمق أجواء الديمقراطية، عن رأيه ويجد الوسيلة الحاملة لهذا التعبير الحر، سواء في المشاركة الكاملة ولكل الرضى وكامل الخيار، في إنتاج العملية الثقافية، وكذلك في نشرها، مع احترام موقف هذا المثقف، إذا لم يرغب في الإسهام في هذه العملية، واكتفى بتوفير الوسيلة الضرورية له، لتمكينه من نشر نتاجه..» أقف عند هذا الاقتباس لما فيه من أهمية، ومن تحديد لدور الثقافة، ونبل هذا الدور وخطورته، وما في الاقتباس يمثل رؤية د. العطار المثقفة، ويقدم رؤية مثالية للتعامل مع المثقف، فهل الأمر كذلك حقاً؟
وهل يتم التعامل مع المثقف بسياسة الاهتمام أو الاحتواء؟ أم إن السياسات أوصلت المثقف وإن كان حقيقياً إلى الرغبة في أن يحتوى؟!

الرؤى والواقع
ومن هنا من حق القارئ أن يسأل فيما إذا كانت الرؤى تتطابق مع الواقع أو تقترب منه، وهل يتم النظر إلى الثقافة كما تطرح المثقفة د. العطار المهمومة بالثقافة وتفاصيلها «الثقافة هي الضوء الذي ما بعده ضوء، سوى الضوء الإلهي وفيه تتمظهر أسرار الكون، سراً بعد سر، وفيه، أيضاً، عطاء باذخ للإنسان المستحق، الساعي إلى المعرفة، سعيه إلى مرضاة الخالق، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأفاء عليه بالنعمى، هذه التي تصبح في فضاءات الفهم والتفهيم، نعيمات ولا أبهى».
أمام رؤية جميلة ومقدرة للمثقف ودوره، وللثقافة ومفهومها، ولكن إذا كنا ننظر إلى الثقافة والمثقف مثل هذه النظرة الإجلالية لِمَ فقد المثقف دوره؟ لِمَ لَمْ يعد للثقافة من دور؟ ولماذا تحول المثقف إلى تابع محتوى استطاعت السلطات أن تحتويه بالطريقة التي تريدها، فتحول في نظر نفسه أولاً، وفي نظر المحيطين إلى ذلك الانتهازي الذي يحقق مصالحه على حساب مبادئه، ويمكن أن ينقل البندقية من كتف إلى أخرى في اللحظة التي يريدها، وفي هذا التصرف الذي بدأ من احتواء المثقف تحول المثقف إلى مكانة لا تستحق الاحترام، ولم يعد ذلك الضوء الذي ما بعده ضوء!!
إن ما تقدمه د. العطار عن الثقافة والمثقف غاية في الأهمية، لكنه يبقى في إطار تحديد الرؤية، ولكن الواقع عمل على غير ذلك، ويحسن هنا أن أشير إلى ذكاء الاختيار لكل لفظ، فالدكتورة تختار توصيف الثقافة، وتوصيف المثقف بالاستحقاق، أي من يستحق أن يكون مثقفاً، فمن القادر على تحقيق الاستحقاق؟
هل السلطة هي التي تحدد؟
هل المثقف نفسه هو من يحدد؟
هل المجتمع المحيط؟
هل المؤسسات المؤدلجة؟
إن حددت السلطة فهي ستختار رجالها، والمثقف تغلبه الأنانية، والمحيط تغلبه الانتماءات، والأدلجة لم تنجح إلا في تسويق مبدعيها إلى أمد، فلنسع كما طرحت د. العطار لتأمين حياة المثقف ونشر نتاجه، ولنترك شخصه ورغباته ورغباتنا.

وللأدب مساحته الأدبية
وبالأسلوب الرفيع لغة وتناولاً لا تخلو دراسة من دراسات الدكتورة نجاح العطار من دراسات أدبية خالصة تبلغ غايات نبيلة في التناول والطرح والنتيجة، وفي أشرعة الفجر عدد من الدراسات الأدبية الخالصة التي أقف عندها لعمقها ولغتها، ولتساوقها وانسجامها مع الفجر والأشرعة والرؤية، منها: قراءة في مفكرات أدباء الأرض المحتلة.. وهذه الدراسة تنبع أهميتها من رؤية الكاتبة وفلسفتها للحالة الثورية عند الشعوب، وكيف يتم تناقل الأفكار والآراء بين الشعوب المناضلة على تباعد المسافات والتوجهات والأيديولوجيات، وإن كانت تتفق، فإنها تتفق جميعاً في النظرة إلى الاحتلال وحق الشعوب في التحرر «الألم الخلاق الذي يدفع إلى هذه المأثرة المجيدة هو الذي أنحني له احتراماً، وأدعوكم معي إلى انحناءة احترام له أيضاً.. لقد حقق كتاب وشعراء الأرض المحتلة، في فلسطيننا الحبيبة، هذه المعادلة الصعبة التي كنا نقرأ عنها لدى الشعوب الأخرى، فنمتلئ بالحماسة والفخر، في تلك الصلة الإنسانية التي تربط بين مصائر الناس والشعوب، وكانت حماستنا إلى بطولات سوانا، نوعاً من الطموح إلى بطولات مماثلة على أرضنا.
وتستعير الكاتبة رأياً ثورياً لثوري ومناضل هو ناظم حكمت «لم يعد يكفينا سماع الأغاني، نريد أن نغني الأغاني، نريد أن نصنع البطولات فيها وحدها، في التضحية المقترنة بها، يكون التحرر والتقدم، وبلوغ الأهداف جميعاً، لقد كانت الرصاصات، منذ أحد عشر عاماً، كلمات أغنياتنا، وقبلها، ولم نكن نعلم، كانت النضالات في الأرض المحتلة، كلمات أغان ملحمية يصوغها اليراع إبداعات ملحمية».

جمع صائغ ماهر
تقارب د. العطار بين تجارب الشعوب لتصل إلى الغاية المتمثلة في أدباء الأرض المحتلة، «وقام الكتاب والشعراء، ضمير هذا الشعب، ضميرنا جميعاً، بلملمة أجزاء هذه الصور للمقاومة، ليصنعوا منها على صعيد الإبداع لوحة للمقاومة، ستكون بدورها مادة مقاومة على جبهة الفكر والفن ذات تأثير بالغ في الأرض المحتلة وخارجها».
ومن مفكرات الكتاب الفلسطينيين تقدم نموذجاً من إميل حبيبي: «إن الكاتب يلجأ إلى التورية، يورد أفكاره السياسية تحت غطاء جيد التمويه بحيث لا تخفى على القارئ ولا تعد مستمسكاً ضده.. (إنني أتعشق صيد السمك، وقراءة الأدب الساخر، والحديث وأخبار المحبين الخالدين، فهذا الأدب يطمئن على مستقبل الإنسان، وعلى أنه أقوى من قيود مجتمعه المتوارثة)..» وبعد جولة مع حبيبي ومفكراته تأتي إلى سميح القاسم ونشيده:
«هنا ميسلون، فعوجوا جميعاً نحيي ثرى ميسلون
هنا استبسل العرب ضد الغزاة، هنا استشهد الباسلون
وكان لجيش الغزاة انتصار ونير علينا وطيد
وكان على العرب إما الخضوع وإما النضال العنيد
وبتنا نقاتل ليلاً نهاراً إلى أن بلغنا الأرب
ولن نترك السيف أو نسترد جميع حقوق الغرب
هنا ميسلون»
ومن مفكرة محمود درويش تختار د. العطار «الرفض وحده لا يشكل شعر مقاومة، المهم خلق الأبعاد المأسوية في الحدث، والإمساك باللحظة الشعرية، إنه ثورية الشاعر يحددها نشاطه داخل حركة الفعل، داخل الجماهير، بواسطة الشعر، هذا النشاط الذي يؤثر على نشاطه داخل الشعر نفسه، وإن علينا أن نكون ثوريين في الحياة وفي الشعر معاً…».
وتقدم الدكتورة نجاح العطار رأيها «إن الأدب الثوري في حقيقته وأصالته، ليس أن نحشو كتاباً بالكلمات الضخمة والشعارات الزاعقة، بل أن نمتلك مفهوماً ثورياً عن العالم، ونعرف كيف نصوغ منه، وفي ضوئه، نسيجاً أدبياً ثورياً، يشعل النار في غابات عدونا، ويجتث ظلمه وطغيانه من الأرض التي يعيث فيها فساداً».
إن أهم ما يميز هذه القراءات الأدبية العالية علاوة على التحليل، الانطلاق من رؤى ثورية ووطنية وقومية، ترتكز إلى مسلمات الشعوب وقدراتها وطاقاتها في الوصول إلى غاياتها… وثمة دراسات أخرى يضيق المجال عن ذكرها، ولا يحسن أن تعرض تلخيصاً حتى لا يساء إلى سبكها ونسجها الذي وضعته د. العطار في سياقه، وعدد من هذه الدراسات يعود إلى أربعة عقود من اليوم أو يزيد.

ولحلب البهية نشيد
إن ما ينظم الكتاب هو البحث في الرؤى والمستقبل والتفاؤل بالفجر، لذلك ختمت هذه الرؤى بما أنشدته لحلب عندما عادت إلى حضن سورية، ولتنظر إلى ما اختارته من حلب وسيف دولتها ومتنبيها «ليس عجباً أن يكون شعر المتنبي فيه مناجاة للبطولة والشجاعة والمفاداة التي جسدها سيف الدولة في المعارك التي خاضها في وجه المؤامرات التي شارك فيها مع الروم، كما في الزمن الراهن، إخوة وجوار ما جعل المتنبي والحسرة تملأ قلبه يقول لسيف الدولة:
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل؟
لتختم الرؤى والقراءات من اليوم:
«إنك الأمل الوضاء والقائد الفذ، ومقولتك الرائعة التي نؤمن بها جميعاً، ويسعى شعبك النبيل معك، وبكل أطيافه لتحقيقها، هي أنه لا تفريط بذرة من تراب الوطن، هذا الذي سقاه شهداؤنا، أحباؤنا، بالدم سخياً، وافتدوه بالروح، وبكل ما هو غال وثمين.
وأنت يا حلب
إن بعض كبرك من كبر قائدك
وبعض مجدك من مجده
ولن يصغر هذا الكبر
ولن يأفل هذا المجد
صياغة كلام الأمل والفجر والإيمان بالأمة والغد، بالثقافة ودورها المؤثر الفاعل، قدمته الأستاذة الدكتورة نجاح العطار بدورها الفاعل، واطلاعها العميق، ولغتها المشرقة التي تصل حداً لا يدانى لغة وبلاغة وبياناً… والحقيقة المنشودة غاية البيان بكل ما يحوي من إشراق.. دام ألق الكلمة وإشراق اللغة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن