الشرق السوري سيحدد مصير الخليج برمته
| عبد المنعم علي عيسى
أوردت وكالة CNN الأميركية يوم 14 الجاري خبراً مقتضباً مفاده أن الجيش الأميركي قد قام بنقل منظومة الراجمات الصاروخية المتطورة من طراز هيمارس من الأردن إلى داخل الأراضي السورية للمرة الأولى منذ بدء الأزمة السورية، الخبر ليس بحاجة إلى تعليق أو توضيح، فواشنطن قامت بقصف قوافل الجيش السوري المتقدمة باتجاه التنف لثلاث مرات في خلال أسبوع واحد، لكن الطريف في الأمر، أن البيانات الصادرة عن الجيش الأميركي تقول إن ذلك الفعل كان دفاعاً عن النفس، وكأن الجيش السوري يتقدم باتجاه شيكاغو وليس باتجاه معبر التنف الذي يجب عليه أن يكون فيه ومدافعاً عنه، وواشنطن هذه تريد «شقلبة» المعادلة الجديدة التي فرضها الجيش السوري بوصوله إلى الحدود السورية العراقية وهو ما أعلن عنه في العاشر من الشهر الجاري.
من شأن الوصول السوري إلى معبر التنف أن يكون خطوة بالغة الأهمية، إلا أن الأهم منها هو التمكين فيها بعد استكمال شروط ترسيخها كمعادلة على أرض الواقع، الأمر الذي يمهد لجني الثمار التي تكون قد أينعت في حال حدوث الفعل، فمجرد الوصول يعني عملياً فشلاً أميركياً ذريعاً، إلا أن النجاح في المحافظة عليه سيمثل هزيمة أميركية محققة بل مبعثرة لأحجار الدومينو الأميركية في الشرق، الأمر الذي يراه المنظار الروسي البعيد وكأنه بات قاب قوسين أو أدنى وهو ما يستشف في تصريح المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في الحادي عشر من الشهر الجاري عندما قالت: إن التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، يحتضر بعد إخفاقه الذريع في سورية.
ما تشي به عملية الدفع براجمات الصواريخ الأميركية هو أن واشنطن لا تريد القبول بالواقع الراهن وهي ستجهد لأجل تغييره ما ينبئ بحالة تصعيد قصوى سيشهدها الشرق السوري، ولربما كان ذلك أمراً طبيعياً قياساً إلى كثافة المخططات والقوى العاملة فيه، ففيه الأميركيون والروس والإيرانيون والأتراك والسعوديون والقطريون والأردنيون والبريطانيون والفرنسيون، وهو ما يشكل أكثف تجمع عسكري يمكن أن تشهده بقعة في هذا العالم راهناً ولربما في التاريخ الحديث حتى برلين لحظة سقوطها في أيار من العام 1945 لم تكن تحوي عديداً من القوى يقارب هذا السابق.
وما يزيد الوضع تعقيداً في الشرق هو أن المكون الكردي السوري يرى في ظل هذه الظروف أنها تمثل الفرصة المثلى لتحقيق تقدم ما أو صيغة أكثر ربحية من صيغة الإدارة الذاتية أو روج آفا المعلنتين في تشرين الثاني 2013 وآذار 2016 على التوالي، وعليه فإن الخطوة المقبلة يمكن أن تكون هي الحكم الذاتي موسع الصلاحيات استنساخاً لنموذج إقليم كردستان العراق الذي ولد في أتون عاصفة الصحراء 1991 ومن ثم تعمد بعد غزو العراق وسقوط عاصمته في نيسان 2003.
ما من شك أن الأكراد السوريين ينسجون على منوال أشقائهم العراقيين المستنيرين بنظرية وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الذائع الصيت ومفادها السير خطوة خطوة أي «step one step»، فها هم العراقيون الذين أنجزوا الخطوتين سابقتي الذكر يعلنون من أربيل في 12 الجاري أن يوم الخامس من أيلول سيكون يوماً للاستفتاء على مصير كردستان العراق على الرغم من أن الأمم المتحدة قد نأت بنفسها عن تلك الخطوة وأعلنت أنها ليست شريكاً فيها ولا مراقباً لها.
المشكلة في الأمر أن القيادات الكردية التي تمتلك القرار تبدو وكأنها تسقط من حساباتها عوامل عدة هي لازمة ومحددة لنجاح عملية الانتقال من درجة إلى درجة أعلى في عملية «رسم الكيان» وأقصى ما تستطيع القيام به هو تكرار للتجربة العراقية على الرغم من البون الشاسع الذي يفصلها عن الحالة السورية، ففي كردستان العراق مثلاً هناك أربعة ملايين ونصف مليون كردي يعيش بينهم نصف مليون من الأقليات المختلفة في حين إن «روج آفا» تضم 2,5 مليون كردي في الحد الأقصى يعيشون وسط ستة ملايين أغلبيتهم من العرب مع أقليات تركمانية وآشورية وسريانية وإيزيدية، وفي المقلب الآخر فإن الظروف السائدة في خلال حربي 1991 و2003 هي بعيدة كل البعد عن الظروف السائدة حالياً إلا إذا كان الأكراد يراهنون على معسول الكلام الذي يسمعونه من الأميركيين ممتزجاً ببعض الفعل الذي يوحي بأن ذلك العسل غير مغشوش أو أنهم يراهنون على دعم بعض القوى الإقليمية التي لم تفعل إلا «جكارة» بتركيا وخصوصاً ما عد موقفها الأخير من الأزمة القطرية الخليجية.
من الممكن أن الأميركيين قد مارسوا سلوكيات يفهم منها أن كفة الأكراد لديهم راجحة على باقي حلفائهم الآخرين عندما أداروا ظهرهم للشرط التركي بعدم مشاركة القوات الكردية في معركة الرقة إذا ما أرادوا مشاركة تركية فيها، إلا أن ذاك الموقف تكتيكي وهو لا يندرج إلا في بوتقة لعبة شد الحبل والرهان عليه سيكون خطأ استراتيجياً جسيماً بل يؤدي أيضاً إلى خسارة الدنيا والآخرة فمن يرقب السياسات الأميركية جيداً يدرك أن واشنطن قد تقدم العديد من الوعود بل العديد من الالتزامات في خلال احتدام مراحل الصراع، بل تنفذ جزءاً منها لكن عندما تحين التسويات الكبرى أو تنضج التوافقات النهائية عندها سيكون هناك موقف أميركي مغاير تماماً ولا يشبه نظائره السابقة، ففي النهاية تفرض الوقائع والمصالح نفسها وكمحدد أول لا يسبقه محدد آخر في صناعة القرار السياسي، وفي هذا السياق فإن المصالح الأميركية مع الأتراك أو الإيرانيين أو العراقيين لا تقاس، بتاتاً بالمصالح مع الأكراد الذين يعيشون تيها يمثل عبئاً عليها.
شهدت المنطقة العربية منذ هبوب رياح «الربيع العربي» عام 2011 حالة انزياح في مركز الثقل العربي اقتضى انتقاله من عواصم القرار في دمشق والقاهرة وبغداد والجزائر إلى عواصم جديدة كالرياض والدوحة، فقد استطاع تكتل الخليج استغلال حالة الفوضى التي تشهدها تلك العواصم مضافا إليها تفعيله للمال الذي أضحى حصان طروادة خليجي لاختراق العمق العربي والإمساك بقراره ولو إلى حين، ولربما حققت تلك المحاولة درجة لا بأس بها من النجاح قياساً إلى تهتك النسيج السياسي الحامل تقليديا لأمن واستقرار المنطقة، إلا أنه كان من الواضح أن ذلك النجاح سوف يكون مؤقتا لأنه ببساطه اصطناعي، فحقائق الجغرافيا وحقائق التاريخ لا يمكن خلقها عبر الإعلام ولا اصطناعها عبر المال، وهو أمر لو حصل فسوف يكون أقرب إلى حالة «المسخ» الذي يستحضر السخرية غداة ثبات الرؤية، واليوم تبدو هذه الحالة الأخيرة وكأنها قد وضعت أوزارها أو باتت مكتملة النضج، ما يعني عودة الأمور تلقائياً إلى نصابها القديم بمعنى عودة مراكز الثقل إلى أصحابها الشرعيين الذين فرضتهم عوامل الجغرافية والتاريخ، وما محاولة الرياض اجتذاب القاهرة بشيك بلا رصيد تمثله اتفاقية تيران وصنافير إلا محاولة للالتجاء إلى تلك المراكز التي يمكن أن تضمن لها زعامة عربية وإقليمية بعدما أدركت تضعضع البيت الخليجي الذي احتوى ندية قطرية، وحيادية كويتية، ونأي بالنفس أرادته سلطنة عمان إستراتيجية لها، بينما الباقون مثل الإمارات فقد تكفلت ويكيليكس بإظهار نياتها المضمرة تجاه الرياض ليبقى هناك حليف واحد هو البحرين التي يتهدد نظامها أعاصير لا يبدو أن موانئ السعوديين أو الأميركيين كفيلة بحمايتها منها.
المشكلة أن السعودية أخذت عن نظريات الغرب الرأسمالي قاعدة مقدسة اعتمدتها على مر تاريخها وهي تقول: إن «المال هو أكبر مولدات القوة» وهو قول صحيح، إلا أن من وضعه لم يكن يقصد بالتأكيد أن يفضي إلى تطبيقه بشكل مجرد بعيد عن جميع المؤثرات الأخرى، وعلى مدى عقود كانت الرياض تنطلق من أن المال كفيل برسم التحالفات التي تحقق مصالحها حتى باتت بعض الممارسات في هذا السياق مثاراً للتندر، كأن تعلن اندونيسيا وجزر المالديف من أنهما سمعتا انضمامهما إلى التحالف الذي أعلنته الرياض عام 2015 من وسائل الإعلام فقط، حتى في معالجتها للمخاطر المحدقة بالكيان والدولة تبدو الطروحات السعودية ساذجة وهي في عمقها ترى أن من تقدم لهم المساعدات يجب عليهم أن يقدموا فلذات أكبادهم لها، الأمر نفسه ينطبق على طريقة التعاطي مع التناقض الأساسي الذي تراه الرياض محدداً لوجودها ونموها واستمرارها فهي تقول مثلاً: إن إيران هي القوة الوحيدة التي تشكل خطراً عليها وعلى الخليج، وفي المواجهة تعمل على خلق العديد من التحالفات التي لا تنفع بل تضر، ولنفرض أن هذا الكلام صحيح بمعنى أن إيران هي الخطر الأوحد، فالمعالجة لا تكون برشا تدفعها للأميركيين أو لعشرات الدول لكي يعلنوا تضامنهم معها ولا بتكديس أسلحة ستعرف طريقها إلى المستودعات فقط وهي لن تخرج منها لأن الجيش السعودي ببساطة بتركيبته الحالية يحتاج إلى نصف قرن لاستيعابها كحد أدنى، بل تكون ببناء قاعدة مادية واقتصادية وعسكرية قادرة على إجبار «العدو» تغيير سياساته أو مطامعه المزعومة في جغرافيتها أو ثرواتها كما تقول، فالوهن كان على مدى التاريخ المحفز الأكبر لأطماع الخارج، وغيابه كان يشكل على الدوام حالة كفيلة بردع الطامعين.
إن جردة حساب سريعة تقول إن السعودية وعلى امتداد العقود الأربعة الماضية، صرفت بضع عشرات من الترليونات التي كان يمكن لها أن تؤسس لقاعدة مادية تملك القدرة على تغيير ما يفكر به الآخرون، إلا أن النفخ كان على الدوام في قربة مثقوبة.