ثقافة وفن

في ذكرى رحيل سيد درويش … تتلمذ في سورية.. واكتسب من أساتذتها ما افتقر إليه من ألوان المعرفة

| وائل العدس

مرت الذكرى الرابعة والتسعون على رحيل أحد مؤسسي الموسيقا العربية ومجددها وباعث نهضتها، الموسيقار ابن مدينة الإسكندرية سيد درويش، الذي رحل في 10 أيلول من عام 1923.
ينجح بالخروج إلى الوجود بلغته الفلسفية النغمية فيسحر بجمالها الألباب ويرقص النفوس، فما كان يلحن أغنية حتى يرددها أفراد الشعب والعوالم اللواتي يقمن الأفراح والمسارح الغنائية وموسيقات الجيش والموسيقات الأهلية، وكان لكل لحن قصة ومناسبة ولكل مناسبة أثرها العميق في نفسه المرهفة الحساسة.
جعل من الموسيقا رسالة لاستخدام هذا الفن العظيم في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي هذا إضافة إلى ناحية الطرب.
إنه صاحب لحن النشيد العربي المصري «بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي»، أما أول أغنية لحنها فكانت «زوروني كل سنة مرة» الشهيرة.

علم لم يكتمل
ولد سيد درويش في 17 آذار عام 1892 بمدينة الإسكندرية، وكان والده يمتلك دكاناً صغيراً لصناعة النجارة، وعندما تهيأ الطفل سيد لبداية حياته المدرسية أراد له والده أن يسلك مسلك العلم والفضل وخط له طريقاً يجعله في مستقبله شيخاً وموجهاً دينياً أو إماماً أو مدرساً.
ابتدأ الطفل يداوم على الكتاب، وبعد تعلمه القراءة والكتابة وحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم ترك الكتاب وانتسب إلى المعهد الديني في الإسكندرية تنفيذاً لرغبة والده، وداوم في هذا المعهد سنته الأولى.
لكن والده الفقير توفي ولم يخلّف له إلا بعض الديون والتزام إعالة أمه وأخته فاضطر إلى قطع مرحلة دراسته، وخلع المسكين عمامته وجبته وراح يبحث عن عمل يعيش من وارده، وأول عمل قام به هو بيع الأثاث القديم مع قريب له ثم عمل مساعداً لبائع دقيق ومناولاً في محل لتبييض النحاس.

ثلاثة عوامل
تبرز ثلاثة عوامل في حياة درويش دفعته وشجعته لدخول مجال الغناء، أولها عندما كان يترنم بجمال صوته خلال عمله بألحان قديمة معروفة فأمره معلمه أن يكف عن العمل ويكتفي بالغناء فقط، فجلس يغني طوال نهاره للعمال، وكانت هذه الانطلاقة الأولى سبباً في شعور الشيخ درويش بموهبته الفنية.
أما العامل الثاني فيكمن في العام الثاني من دراسته في المعهد الديني في الإسكندرية عندما وجد على الرصيف عند بائع الكتب القديمة كتاباً يبحث في مبادئ الموسيقا ثمنه نصف قرش، فأيقظ هذا الكتاب في نفسه مواطن الموهبة الموسيقية.
وهناك عامل ثالث نبه فيه الشعور بالموهبة هو إعجابه بصوت حسن الأزهري الذي كان يدعى لإحياء الحفلات الغنائية عند الأغنياء في السرادق وكان درويش لا تفوته حفلة من حفلاته حتى تأثر به وصار يقلده تقليداً بارعاً في طريقة غنائه وأدائه.
هذه العوامل الثلاثة بمجموعها تعتبر اللبنة الأولى في بناء حياة الشيخ سيد الفنية ومنطلقه الأول نحو المجد الموسيقي الفني الذي توصل إليه.

رصيد غني
تزوج الشيخ سيد وهو في السادسة عشرة من العمر، وصار مسؤولاً عن عائلة، فاشتغل مع الفرق الموسيقية، لكنه لم يوفق، فاضطر أن يشتغل عامل بناء، وكان خلال العمل يرفع صوته بالغناء، وتصادف وجود الأخوين أمين وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين بالفن في ذلك الوقت، في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل به الشيخ سيد درويش، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل من قدرة وجمال، واتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في نهاية عام 1908.
عاد إلى الشام في عام 1912 وبقي هناك حتى عام 1914 حيث أتقن أصول العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية، فبدأت موهبته الموسيقية تتفجر، ولحن أول أدواره «يا فؤادي ليه بتعشق».
في عام 1917 انتقل إلى القاهرة، ومنذ ذلك سطع نجمه وصار إنتاجه غزيراً، فقام بالتلحين لجميع الفرق المسرحية أمثال فرقة نجيب الريحاني، جورج أبيض وعلي الكسار، حتى قامت ثورة 1919 فغنى «قوم يا مصري».
بلغ إنتاجه في حياته القصيرة من القوالب المختلفة العشرات من الأدوار وأربعين موشحاً ومئة طقطوقة و30 رواية مسرحية وأوبريتاً.
هذه الموشحات والأدوار اشتهرت شهرة كبيرة في سائر البلاد العربية وأصبحت المادة الثقافية الفنية لكل فنان وأصبح قياس المعرفة الموسيقية هو حفظ ألحان الشيخ سيد وأدواره وموشحاته وأهازيجه.
أما أول حفلة أقامها الشيخ سيد في القاهرة فكانت في مقهى الكونكورديا وحضر هذه الحفلة أكثر فناني القاهرة حتى وصل عدد الفنانين المستمعين أكثر من عدد الجمهور المستمع، وفي هذه الحفلة خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية الآهات التي ترددها الجوقة وكانت غريبة على السمع المألوف، ولذا انسحب أكثر الحاضرين لأنهم اعتقدوا أن هذه الموسيقا كافرة وأجنبية وأن خطر الفن الجديد أخذ يهدد الفن العربي الأصيل، وبالطبع فإن فئة من الفنانين المستمعين لم تنسحب لأنها أدركت عظمة الفن الجديد الذي أعده الشيخ سيد لمستقبل الغناء العربي.
اشترك الشيخ سيد مع الفرق التمثيلية ممثلاً ومغنياً فعمل مع فرقة سليم عطا اللـه وسافر معها إلى سورية ولبنان وفلسطين، وكان لهذه الرحلة أثر كبير في اكتسابه أصول الموسيقا العربية إذ تتلمذ في حلب على الشيخ عثمان الموصلي العراقي.
ويقول الشيخ محمود مرسي: إن الشيخ سيد عاد بعد هذه الرحلة أستاذاً كبيراً في ميدان الموسيقا العربية.
وسافر مرة ثانية مع فرقة جورج أبيض إلى سورية فأعاد الصلات الفنية بينه وبين موسيقييها واكتسب من أساتذتها ما افتقر إليه من ألوان المعرفة، ولما عاد إلى القاهرة في هذه المرة رسم لنفسه خطة جديدة في ميدانه الغنائي والمسرحي فلحن معظم أدواره وموشحاته الخالدة التي عرفت الناس بمدرسته الإبداعية الجديدة.
ظهر للشيخ سيد أول دور بعد هذه الرحلة وكان مقام العجم «يا فؤادي ليه بتعشق» وكان مقتبساً من موشح حلبي قديم من مقام العجم أيضاً، أخذه الشيخ سيد عن الشيخ عثمان الموصلي ولكنه لم يستطع في بادئ الأمر أن ينسبه إلى نفسه وإنما نسبه إلى إبراهيم القباني.
وأما ما اشتهر من الشيخ سيد في تلحين الأدوار بين الناس عاد ونسبه إلى نفسه.

ألحان وطنية
اقتبس من أقوال الزعيم مصطفى كامل بعض عباراته وجعل منها مطلعاً للنشيد الوطني «بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي» ولحن أيضاً نشيداً وطنياً من نظم مصطفى صادق الرافعي ومطلعه «بني مصر مكانكم تهيأ فهيا مهدوا للملك هيا خذوا شمس النهار حليا»، كما لحن في مناسبة أخرى أناشيد وطنية قال فيها «أنا المصري كريم العنصرين بنيت المجد بين الأهرامين جدودي أنشؤوا العلم العجيب ومجرى النيل في الوادي الخصيب لهم في الدنيا آلاف السنين ويفنى الكون وهم موجودون».
وأنشد في جماعة من المتظاهرين ضد الاحتلال الإنكليزي نشيداً محمساً إياهم قال فيه: «دقت طبول الحرب يا خيالة وآدي الساعة دي ساعة الرجالة انظروا لأهلكم نظرة وداع نظرة ما فيش بعدها إلا الدفاع». وعالج الشيخ سيد في أغانيه الموضوع الاجتماعي في غلاء المعيشة والسوق السوداء فقال «استعجبوا يا أفندية ليتر الكاز بروبية».

التلحين الأوبرالي
أضاف درويش إلى الموسيقا مأثرة جديدة وهي التلحين البارع من خلال الأوبريتات ومنها أوبريت «شهرزاد» ظهرت هذه الأوبريت للمرة الأولى أواخر عام 1920 وأوائل عام 1921 وكان انقلابها بدء انقلاب جديد في عالم الموسيقا العربية والألحان المسرحية.
ووضع درويش ألحاناً للأوبربتات التي بلغ عددها العشرين منها تلك التي لحنها لفرقة نجيب الريحاني وهي «ولو» و«إش» و«رن» و«قولوا له» و«فشر» ولحن لفرقة علي الكسار «راحت عليك» و«لسه» و«أم أربعة وأربعين» و«البربري في الجيش» و«الهلال» وجزءاً من أوبريت «الانتخابات» ولحن لفرقة منيرة المهدية «كلها يومين» والفصل الأول من أوبريت «كليوباترا. وأنطونيو» ولحن لأولاد عكاشة «الدرة اليتيمة» و«هدى» و«عبد الرحمن الناصر» وإذا اعتبرنا أن في كل أوبريت عشرة ألحان فتكون مجموع ألحان الشيخ سيد في أوبراته العشرين مئتي لحن إضافة إلى الأدوار والموشحات والأناشيد الوطنية والمونولوجات وغيرها من الألحان والأهازيج التي قدمها الشيخ سيد للموسيقا العربية.

عمر قصير
انتهت حياة هذا الفنان الخالد يوم 10 أيلول عام 1923 ويقال: إن سبب الوفاة هو تسمم مدبر من الإنكليز أو الملك فؤاد وله من العمر إحدى وثلاثون سنة وما أقصره من عمر وما أغزره من إنتاج وما أشقه من جهاد في سبيل هذه الحياة القصيرة المتواضعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن