اقتصاد

دراسة حديثة لـ«مداد»: إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد لا يتمان عبر المؤتمرات ولا في ظل دور فاعل للمزايدين … مطلوب حملة نوعية لضرب الفاسدين وتفكيك مراكز القوى التي تدعمهم وعدم الاكتفاء بتوقيفهم عن العمل

| الوطن

بيّنت دراسة حديثة لمركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد» أن عملية استقطاب الاستثمارات الحقيقية، التي يمكن التعويل عليها في عملية إعادة الإعمار، والنهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي لا يمكن أن تتم عن طريق المؤتمرات، مهما بلغت مستويات الرعاية، ودقة التنظيم، ومظاهر الأبهة والمعاصرة، ولا يمكن أن تأتي على وقع الضجيج الإعلامي التعموي المرافق لها، كما لا يمكن أن تأتي في ظل دور مؤثرٍ وفاعلٍ للفاسدين والمزايدين، في صياغة المشهد العام السوري، في الحاضر والمستقبل، ولا يمكن أن تأتي من خلال سياسة استصراخ الضمائر، لترى ما فعلته قوى الإجرام والإرهاب، المتعددة الانتماءات والمشارب في سورية، من خراب أو تدمير، طال مختلف مكونات البنية التحتية، واستنزف بصورة مؤلمة وكارثية، خيرات الشعب السوري، ومقدراته التنموية لعقودٍ طويلة من الزمن.
الدراسة التي حملت عنوان «مناخ الاستثمار وإعادة الإعمار في سورية بين مقومات الجذب وعوامل الطرد» أعدها الباحث الاقتصادي الدكتور مدين علي مبيناً خلالها أن الاستثمارات الحقيقية التي يمكن الرهان عليها في عملية إعادة الإعمار، هي التي بضمانة المؤسسات والقانون، والبيئة المحكومة بالشفافية والوضوح، والقضاء النزيه والمتوازن، والسياسات الاقتصادية المنسجمة، الواضحة المعالم، المحددة الأهداف والوسائل، وليس بضمانات بعض الأشخاص، أو بعض مراكز القوى. ما يعني أن المساعي التي تستهدف خلق بيئة استثمارية حقيقية جاذبة للاستثمارات، ومستقطبة لرؤوس الأموال، يجب أن تكون جزءاً من عملية إطارية متكاملة، المتعددة الأبعاد والمضامين، تستهدف إعادة بناء كيان الدولة السورية على أسس حداثية، وخصائص معاصرة، وانتشار الكثير من الصور السيئة، والمظاهر السلبية، والسلوكيات المؤلمة، الناجمة عن ضعف أجهزة الدولة، وسريان مفاعيل قانون الفوضى، الذي طغى بقوة على المشهد العام في سورية في زمن الحرب، وتفاقمت مفاعيله بصورة فاضحة ومؤلمة، جراء العقوبات الدولية على الشعب السوري.

خطة «مداد»
بيّن الباحث أن عملية صياغة إطار كلي، يؤسس لفضاء سياسي واقتصادي وثقافي، بخصائص حديثة ومعاصرة، يمكن الرهان عليه كرافعة في مرحلة إعادة الإعمار، يتطلب العمل المكثّف في سياق مسارات متكاملة، على مستويات متعددة تتضمن المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومستوى التربية والتعليم ومستوى القضاء والقانون والتشريع، ومحاربة الفساد وتفكيك بنيته التنظيمية ومستوى العلاقات مع العالم الخارجي.
على المستوى السياسي، رأى الباحث ضرورة بناء فضاء سياسي طبيعي، عبر مشروع صياغة هوية وطنية جامعة، يكرس ثقافة الانتماء الجمعي، ويجري المطابقة ــ الضرورة التاريخية ــ بين الدولة/ الكيان والمجتمع، بكل مكوناته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويفتح الأفق للمشاركة السياسية، على أسس حداثية متوازنة وعادلة، تحقق مبدأ تكافؤ الفرص سياسياً واقتصادياً وثقافياً، يعدُّ مدخلاً استراتيجياً لصياغة، أو لبلورة إطار اقتصادي عقلاني، تلقائي وطبيعي، يتضمن في جنباته بيئة اقتصادية واستثمارية آمنة ومستقرة، ويساعد في خلق مناخ استثماري محفّز، جاذب للاستثمارات، ومستقطب لرؤوس الأموال، يمكن الرهان عليه في مرحلة إعادة الإعمار، كرافعة للنهوض بواقع اقتصادي واجتماعي مهشّم ومتصدع.
اقتصادياً، رأى الباحث ضرورة العمل المكثف، من أجل إعادة هيكلة السياسة الاقتصادية العامة للدولة، بكل مكوناتها، وتحديداً المالية والنقدية والتجارية، وسياسات إدارة الموازنة العامة والأجور والتشغيل والمرتبات والدعم، وتوزيع الدخول على مختلف عناصر الإنتاج، من كل ذلك إلى سياسات التأجير والاستثمار والاستملاك.. وغير ذلك. ويبقى الأبرز والأهم في هذا الإطار هو ما يتعلق بضرورة وجود رؤية إستراتيجية، تتعلق بتقدير دور كل من القطاعين العام والخاص، ودور الأجهزة البيروقراطية والتفتيشية والرقابية والمؤسسات الحكومية المختلفة، وتحديداً دور المؤسسات المالية والمصرفية، في عملية الاستثمار وإعادة الإعمار.
مبيناً أن استمرار حالة الغموض والتردد، حول ما يتعلق بالهوية الاقتصادية، وأولوية الخيارات والقطاعات التنموية، ودور كل من القطاعين العام والخاص، والأهم من ذلك، الموقف من ظاهرة الفساد، وعدم المبادرة بقوة وجدية، للإطاحة برموزه، وتفكيك بنيته، وضرب مفاصله، ومحاسبة الفاسدين على مرأى ومسمع من الجميع، مهما بلغ موقعهم في إدارة الشأن العام، بصورةٍ ومنهجية.. سيبقى يشكل نقطة ضعف خطرة، تكتنف بنية السياسة العامة للدولة، وتبقي صدقيتها على محك الاختبار، ويجعل مردودها السياسي والاقتصادي والاجتماعي متواضعاً ومحدوداً، وسيوفر في الوقت ذاته، الفرصة التاريخية للفاسدين في الداخل والخارج، للالتفاف على مشروع بناء الدولة والمجتمع في سورية، وتفريغه من مضمونه، وإبقائه مجرد شعارات إعلامية، أو ظاهرة صوتية، خالية المحتوى، فارغة المضمون لا معنى لها.
ورأى الباحث أن تنفيذ تلك الاستحقاقات الاقتصادية يعدُّ مدخلاً استراتيجياً لخلق بيئة استثمارية جاذبة، وبالتالي مدخل لصياغة مناخ استثماري، مُستقطب للاستثمارات ورؤوس الأموال النظيفة السورية وغير السورية. موضحاً أن عملية خلق بيئة استثمارية جاذبة للاستثمارات، ومناخ استثماري مستقطب لرؤوس الأموال، يمكن الرهان عليهما في تعزيز الثقة لدى الشركات ورجال الأعمال والمستثمرين الحقيقيين، تتطلب العمل بقوة وحزم، من أجل المبادرة والمباشرة في تفكيك بنية الفساد، وشن حملة نوعية، تستهدف الضرب بقوة على أيدي الفاسدين، وتفكيك مراكز القوى، التي تؤمن لهم سبل الدعم والمؤازرة. ومحاسبتهم ليكونوا عبرةً واعتباراً، مهما بلغ شأنهم في مستويات إدارة الشأن العام، ومفاصل أجهزة الدولة، وعدم الاكتفاء بتوقيفهم عن العمل أو صرفهم من الخدمة.
في التربية والتعليم والمجتمع

أشار الباحث إلى التحدي المتعلق بقدرة الدولة على تأمين فرص العمل، لما يتجاوز حدود (350000) وافد إلى سوق العمل سنوياً، معظمهم بمهارات محدودة، وقدرات متواضعة، أو باختصاصات تقليدية، ما يعني في الشكل والمضمون، وجود فجوة كبيرة بين طبيعة المخرجات التعليمية والتربوية من جهة، واحتياجات ومتطلبات سوق العمل المعاصرة من جهة أخرى، تتطلب معالجتها إعادة النظر في السياسة التربوية والتعليمية بصورةٍ عاجلة، تحديداً لجهة ما يتعلق بضرورة تكييف مخرجات قطاعي التربية والتعليم مع حاجات أو متطلبات سوق العمل. وبالنتيجة فإن تأهيل العمالة، وإعداد الكوادر المدربة التي تمتلك الخبرات والمهارات النوعية المعاصرة، يعد في الواقع مدخلاً مهماً من المداخل التي يمكن الرهان عليها، في خلق أو تشكيل بيئة جاذبة للاستثمارات ومستقطبة لرؤوس الأموال اللازمة لعملية إعادة الإعمار.
اجتماعياً، أوضح الباحث أن مناخ الاستثمار تعبيرٌ عن رؤية، تعبيرٌ عن علاقة اجتماعية وسياسية باتجاهين، بين من يملك المال والمقدرات الاقتصادية، حتى ولو كانت الدولة، ومن يملك قوة العمل، إنه تعبير عن تحالف ينطوي على مضمون محدد لجهة ما يتعلق بعملية توزيع القوة والسلطة في المجتمع، بين قوى اقتصادية متنافسة ومتصارعة على استغلال ثروات الأمة، وكيفية اقتسامها أو توزيعها، لذلك تصبح عملية خلق بيئة استثمارية جاذبة، ومناخ استثماري مستقطب لرؤوس الأموال في مرحلة إعادة الإعمار، مسألة تتطلب إعادة النظر في الكثير من القوانين والنظم والتشريعات، المتعلقة بحقوق المستثمر وحقوق العمال، أو تلك التي تحكم العلاقة الإنتاجية، سواء كان لجهة ما يتعلق بالحد الأدنى للأجور والمرتبات والحقوق التأمينية والضمان، أم لجهة ما يتعلق بثقة المجتمع بـمسائل متعددة كخطط الدولة، والسياسية الاستثمارية والبرامج التنموية، ودور رجال الأعمال والمستثمرين، وأهمية إسهامهم في عملية النهوض الاقتصادي طوال سنوات ما بعد الحرب.
وبرأي الباحث، فإن الأبرز في هذا الإطار، هو تهيئة الرأي العام الاجتماعي، للتعاون والقبول بجدوى التشاركية والاستثمار، وأهمية دور الفرد والمجتمع في خلق بيئة استثمارية جاذبة للاستثمارات، ومستقطبة للرساميل هذا من جانب، وتمكين المجتمع سياسياً من جانبٍ آخر، من ممارسة حقوقه المشروعة، على أساس قوانين عصرية، من خلال نقابات حقيقية، منظمة، فاعلة ومستقلة. مبيناً أن هذه المهمة في الواقع، لا تنحصر في نطاق اختصاص الدولة فحسب، بل تدخل في بعض جوانبها في نطاق مهام القطاع الخاص ورجال الأعمال، الذين يتعين عليهم العمل بصدقية، وتحت سقف القانون والتشريعات، والالتزام الطوعي والأخلاقي بالمعايير الوطنية، بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كي لا يُهدم الهيكل مرتين على رؤوس العمال ورجال الأعمال.

في القضاء
رأى الباحث أن الكثير من التحديات والمعوقات التي تواجه عملية الاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال إلى سورية، تتولد أو تنبع في بعض جوانبها من الإطار الكلي، الذي يتحدد من خلاله معالم الجسد القضائي والقانوني في سورية، وذلك بسبب ما يسيطر عليه في بعض مفاصله من فساد وانتهازية وتخلف، من كل ذلك إلى قدرة وإمكانية مفتوحة، لجهة ما يتعلق بتفسيرات أو تأويلات مواربة وتخاتلية، للكثير من فقرات القانون ومواده، إضافة إلى المسار الزمني الطويل، الذي تستهلكه عمليات التقاضي وفض المنازعات (ملفات القروض المتعثرة نموذجاً).
مبيناً أن القضاء النزيه والشفاف والعادل، يعزز ثقة قطاع الأعمال، ورجال المال والمستثمرين بالاقتصاد الوطني، ويحفزهم على التوظيف والاستثمار بضمانة القانون، لا بضمانة الأشخاص أو بضمانة علاقة زبائنية، مع مراكز قوة، أو تأثير معينة، تتغير قدرتها على التدخل وممارسة النفوذ، مع كل تغير ديناميكي، قد يحصل على المستوى المتعلق بعملية إعادة توزيع القوة بين مختلف المفاصل، سواء أكان في هيكل السلطة أم المجتمع.
إلى ذلك، رأى الباحث أن عملية إعادة تشكيل الجسد القضائي على أساس النزاهة والكفاءة والشفافية والعدل، ومحاسبة المسيئين وسن التشريعات الواضحة والشفافة والمباشرة، وتأمين كل مستلزمات تطويره تقنياً ومعرفياً، تعدُّ مدخلاً مهماً واستراتيجياً لصياغة فضاء اقتصادي معاصر، يساعد في خلق بيئة استثمارية، وبناء مناخ استثمار محفز للاستثمارات ومستقطب لرؤوس الأموال اللازمة لعملية إعادة الإعمار.
منوهاً بأن خلق بيئة استثمارية جاذبة للاستثمارات، وتشكيل مناخ استثماري مستقطب للفعاليات الاقتصادية ورؤوس الأموال، يتطلبان من الحكومة السورية الانفتاح على العالم الخارجي، والانخراط في النظام الاقتصادي الدولي، وفق الأسس والقوانين الاقتصادية المعاصرة، بما لا يمس حدود السيادة السورية، أو مصالح الشعب السوري الإستراتيجية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن