ثقافة وفن

جنكيز آيتمًاتوف والنزعة الإنسانية في أدبه .. خاف أن يفغر فاه المجهد الوارم.. كان مؤلماً على نحو رهيب

| إسماعيل مروة

في مثل هذه الأيام احتفلت دمشق العظيمة الشام بأيام معرضها السنوي، وهو من أعرق المعارض في العالم، معرض دمشق الدولي، الذي ينعقد هذه الأيام.. في مثل هذه الأيام من عام 1977 كنت طالباً في المرحلة الثانوية، وبرزت لدي هواية قراءة الأدب من دون غيره، أذكر أنني في زياراتي للمعرض كنت أقصد الجناحين الروسي والصيني، وكان يطلق عليه الجناح السوفييتي، وفضل هذين الجناحين عليّ لا أنساه، فقد كانا يوزعان علينا مجلات الأطفال المترجمة والملونة بالمجان، لم نكن نعلم أنها موجهة ثقافياً، لكننا تعلمنا منها حتى التعبير بالفصحى، وبالقرب من المجلات كانت المجلدات تعرض وبأسعار زهيدة تشجيعية، فأخذت بعض كتب ديستوفسكي وتشيخوف، وهناك صافحت عيناي أعمال جنكيز آيتماتوف، فترددت باقتنائها، لأنني لا أذكر اسماً سوى اسم جينكيز خان، ثم اقتنيته، وأنا أظن أنها قصص جنكيز الذي تذكره كتب التاريخ، ومع تقليب الصفحات أدركت أنني أمام أديب مختلف مفعم بالإنسانية والحب، وفي ذلك الوقت استدر دمع الصغير الذي كنته، وبقيت قصته المدهشة وداعاً ياغولساري تشحن عاطفتي، وأعترف بأنها منحتني بعداً إنسانياً- إن استطعت امتلاكه- وربما رسخت في لا وعيي، لتخرج بعد عشرين عاماً بقصة كتبتها من حصان شهدت نهايته، وأطلقت عليها «عشرة عمر» وحين أردت أن أشرف في تكريم نفسي بأن أحيي جنكيز آيتماتوف وجدتني أختار رائعته هذه، وأخص النزعة الإنسانية، وأنسنة الحيوان، وحين أعدت قراءتها عرفت مقدار ما تركته فيّ من أثر، وبتبدل الظروف والأحداث عرفت كم كان جنكيز آيتماتوف وفياً لـ:
– الإنسان
– الإنسانية
– الوطن والجمال
– الطزاجة والطبيعة
– المبادئ التي لا تغتال أصحابها
شتان ما بين قراءتين فصل بينهما أربعون عاماً، فكنت أقرأ لكاتب سوفييتي لأجدني أقرأ لقمة في الأدب القرغيزي أضاء في سماء الأدب العالمي.
لا مجال للحديث عن الروائي، فكل من يشارك أعلم مني وأطول باعاً، لذلك أدع أي حديث لأدخل مباشرة في نزعته الإنسانية والوطنية والوجدانية الفياضة.

مفهوم الإنسانية

إن تحليل أي نص يحتاج مساحات من الزمن والورق، لذلك من حسن الاختيار التركيز على بؤرة واحدة، وما يميز آيتماتوف في حياته وأدبه نزوعه إلى الإنسان والإنسانية، هذا النزوع الذي جاء رداً على الإلغاء والخروج من الحياة التقليدية المعتادة بالقسوة لا بحكم التطور التاريخي والمجتمعي، لذلك وصف النقاد أعمال آيتماتوف ناقوس خطر يقرع في وجه تغير طرائق الحياة، وإلغاء الخصوصية المجتمعية لمصلحة الهوية القومية التي نهضت على أكتاف ثقافات وطنية لها خصوصياتها… ومن أدبه اخترت وداعاً ياغولساري المفعمة بعملية الأنسنة، ومن ثم بالنزعة الإنسانية المطلقة التي قد لا تكون موجودة «ها هي تصهل من مكان ما قريب تماماً أجل، كانت هذه هي بعينها، فقد كان يعرف صوتها، وأراد أن يجيبها، ولكنه خاف أن يفغر فاه المجهد، الوارم، فقد كان هذا مؤلماً على نحو رهيب، وأخيراً وجدت هي نفسها، فعدت إليه بخطا ناشطة سريعة، وكان ذيلها وأطرافها مبللة رطبة لقد أتته عبر النهر، حاملة رائحة الماء الباردة، فدفعته بخطمها، وجعلت تتشمم، ملتصقة به بشفاه ملمومة، دفئة، ونخرت بلطف وهي تدعوه للذهاب معاً، ولكنه لم يستطع التحرك من مكانه، فوضعت بعدئذ رأسها على رقبته وجعلت تهرش عفرته بأسنانها، وكان عليه هو بدوره أن يجيبها بالمثل فينيخ رأسه على رقبتها، ليحك عفرتها أيضاً، بيد أنه لم يستطع مبادلتها هذه المداعبة إذ لم يكن في حال تؤهله للحركة كان يتشهى شرب الماء، أواه، لو كانت تستطيع سقيه الماء! وحين قفلت راجعة نظر إليها في إثرها إلى أن ذاب ظلها في العتمة المسائية وراء النهر، أتت ورجعت إذاً.. واحسرتاه، ففاضت الدموع من عينيه جرت دموعه قطرات كبيرة على خطمه وتساقطت عند قدميه دونما ضجة، لقد بكى الحصان لأول مرة في حياته».
وداعاً يا غولساري، هل تمثل عجوزاً وحصاناً؟ هل تمثل مرحلة سياسية كاملة في الاتحاد السوفييتي؟ ربما، ولكن النزعة الإنسانية الطافحة في الرواية حولت العمل إلى نص مفعهم بالإنسانية، ولكن الإنسانية بمفهومها المطلق، وليس بتحويل غولساري إلى الأنسنة، هذه الأنسنة التي أدانها آيتماتوف باستعراض شخصيات إنسانية يدينها طويلاً، لأنها افتقدت الروح الطيبة الإنسانية المطلقة… وخاصة أولئك الذين يشرفون على المزارع، أو أولئك الذين لم يألموا لألم حصانه.
«ليس في طريقنا، وإلا حشرناك في جوف السيارة، وبهذا الشكل، لكنت رميتك عند السوفخوز، ومن هناك تسافر غداً.
– شكراً.. لكن الحصان معي
– أهذه الجيفة؟ فلترمه إلى الكلاب، اطرحه هناك في الوادي، وتحلّ المسألة، ستنقره الغربان، سنساعدك إذا أردت.
– إذاً واصل طريقك، قالها الشيخ من بين أسنانه مكتئباً».
إن كان همنغواي الشيخ قد جابه البحر والقدر والعواصف، فإن انتصاره لم يكن مفاجئاً، ولكن شيخ آيتماتوف كان من نوع آخر، يجابه الظلم والجور وعدم الإحساس بألمه وألم حصانه!! كلاهما كان عجوزاً، وشكلت نهايتهما معاً فيزيولوجياً وروحياً قمة الانتصار، فهذه التركيبة الاجتماعية انتصر عليها تاناباي بما قدمه غولساري.
«مضى تاناباي في السهب، ملقياً بالأعنة عبر كتفه، كانت دموعه تجري في وجهه، وقد اخضلت لحيته، ولكنه لم يجففها، لقد كانت دموعه التي يذرفها من أجل الرهوان غولساري.
طيري! طيري! همس تاناباي للإوز- الحقي بذويك طالما لم يهو جناحاك من التعب، ثم تنهد وقال: وداعاً ياغولساري..».

الوعي المكتمل
طروحات وجودية صعبة يطلقها آيتماتوف، فهل كان يريد من غولساري أن يكون ضمن عشيرته وسربه، بدل أن يخدم المنظومة الحكومية ليصبح بهذا المآل لا يشارك شيخه أحد البكاء عليه؟! هل هي دعوة إنسانية لغربة ابن آسيا الوسطى ضمن المجتمع الجديد المكون، إذ ذكر مؤرخو الأدب الروسي خصائص كل أديب، فجاء عن تشارلز موزر في كتابه «تاريخ الأدب الروسي» شهد آيتماتوف وهو فتى صغير الاستئصال القسري للعادات القبلية القديمة والطريقة الرعوية البدوية لحياة الشعب القرغيزي التي تعلم كثيراً منها من جدته من جانب آخر كان والداه عضوين حزبيين صلبين التزما بتحويل الحياة القومية على النمط السوفييتي، برز كلا هذين الاتجاهين في أعماله، وأضفى اعتقال والده عام 1937 بلا ريب حدة زائدة على التوتر بينهما في وعيه» ص664.
هذا الرأي مهم للغاية، وليست الغاية من طرح الأمثلة والشواهد، بل لأن الناقد وقف عند قضايا مهمة:
– المجتمع القرغيزي القبلي
– الطريقة الرعوية البدوية
– الاتجاهات الحزبية القومية الحادة تجاه الحياة المكتسبة
وفي ضوء هذه القراءة يفهم آيتماتوف القرغيزي أصلاً وأدباً وحياة، وحين يتعلم الحياة القرغيزية عن جدته، فهذه إشارة مهمة إلى أن آيتماتوف ألقى حلقة الوصل جانباً، وهي المتعلقة بالوالدين القوميين الصلبين، وعاد إلى الحياة الطبيعية البسيطة التي وصفت بالقبلية والرعوية.
ومكونات «وداعاً ياغولساري» كلها تعود إلى تلك المرحلة، وهي الفرش المناسب لرواية الشيخين الحصان وصاحبه، وما كان لهذا السحر في وصف آيتماتوف وحديثه وعاطفته مع غولساري، ورحلته في السهوب والجبال والوديان لولا أن كانت الجدة ومجتمع قرغيزيا الطيب في عمق روحه.
ويشير الناقد إلى سمة في أدب أديبنا العظيم آيتماتوف، ويحددها في غير غولساري، وهي في غولساري أشد وضوحاً «يشتمل كثير من أعمال آيتماتوف على أساطير من التقاليد الملحمية الشفوية وصور أيضاً من الميراث الديني الغني لآسيا الوسطى، بما في ذلك الشامانية والأرواحية وأيضاً الإسلام، يبرز الكاتب بما يشبه دق ناقوس الخطر، كيف حصل تقويض تلك التقاليد» 664.
وفي وداعاً غولساري تظهر هذه النزعة الإنسانية المتشكلة في وعيه العميق، ولم تستطع المرحلة القومية الملغزة باعتقال والده أن تخرجها من ذاته، مع أنه عاش وتعايش وكتب واشتهر، وتتمثل قمة السطوع الإنساني في النزعة التي يمكن أن يسبغ عليها الفهم السياسي المتقدم والمورى بكثير من الحنكة.
«لابد أن نلتقي، وقتاً ما، في العالم الآخر، لكني هناك لن أسمع وقع حوافرك، فهناك لا توجد طرق، ولا توجد أرض، وما من عشب، وما من حياة، لكن حينما عشت وأينما سأكون، فإنك لن تموت، لأني سأظل أتذكرك يا غولساري، إن وطء سنابكك، سيظل بالنسبة لي، مثل أغنية حبيبة.
هكذا فكر الشيخ تاناباي، واكتنفه الحزن والأسى، لأن الزمن عدا، مثل عدو الرهوان.
ولأنهما شاخا معاً بسرعة غريبة- ولربما كان لا يزال من السابق لأوانه أن يحسب تاناباي نفسه شيخاً، ولكن الإنسان يشيخ ليس من السنين التي عاشها فحسب، بقدر ما يشيخ من الوعي بأنه شاخ، وأن عهده ولى، وأنه إنما تبقى له أن يحمل نفسه حملاً ليعيش بشكل ما حتى نهاية عمره… والآن، وفي هذه الليلة، ليلة موت رهوانه، جعل تاناباي يتأسف، متطلعاً، من جديد، بتركيز وانتباه شديد إلى ماضيه، على كونه قد استسلم، على هذا النحو المبكر، إلى الشيخوخة».
– لابد أن نلتقي وقتاً ما.
– العالم الآخر.
– وصف العالم الآخر.
– الزمن والتهام الأعمار.
– فهم الشيخوخة.
– عبء الزمن والماضي.
– الاستسلام المبكر لما يفرض على الإنسان.
هذه الطروحات التي اندس فيها آيتماتوف ببراعة مع شيخه تاناباي، ألا تشكل فلسفة حياة وتلقٍّ عنده تعود إلى الجدة وما حمَّلته من إرث قرغيزي مفعم بالإنسانية، سواء أكانت حياتية أم عقيدية؟! في وقت تشل فيه الفكرة القومية العمل بالعالم الآخر يدخل آيتماتوف في عمقه وفلسفته، وإن شئنا أن نذهب مع الناقد إلى الموروث والأسطرة، وتتجلى روعة كاتبنا في إخضاع حصانه إلى عملية أنسنة شفافة لا يدركها إلا من حمل موروثه فاستطاع أن يهضمه ليقدمه بالأسمى من التعبير، ولننظر إلى النزعة الإنسانية التي جعلت غولساري بهياً إنساناً يدرج ويفهم هذا التعلق، وهذا ما نلمسه في مقاطع كثيرة من الرواية، لدرجة أنه ما من أحد يأتي على ذكر آيتماتوف إلا ويقول طرباً «آه غولساري».
فمن عالمه نجد الأنسنة.
– اللقاء في العالم الآخر
– لن أسمع وقع حوافرك – الإنسان هناك في هدوء
– لا توجد طرق – العالم الفسيح للإنسان
– لا توجد أرض – الإنسان لا يعمل
– ما من عشب – الإنسان يتغذى بلا عشب
– سأظل أتذكرك – الإنسان لا ينسى حبيبه
هذه الطروحات جعلت «وداعاً يا غولساري» شخصية أدبية خاصة ومستقلة في حقبة الفكر القومي، وساعدت على بروزه وتكوينه لأنه لم يستطع إلا أن يكون قرغيزياً بالفكر والانتماء والأدب، وقد أشار غير ناقد مؤرخ إلى أن آيتماتوف على الصعيد الإنساني اتعظ من اعتقال والده ونهايته، فتعامل بشكل مختلف، واستطاع أن يكون هو، لا يلقى مصير والده، ولا يتخلى عما قالته الجدة له، ولا يتنازل عما لقنته، وهو كثير، لذلك عاش طازجاً بطبيعة أرضه وحياته، وعندما عاد إلى قرغيزيا لم يكن قد غادر حضن الجدة، فبقي كبيراً ومحط اهتمام، ومنارة تجربة وإنسان، لم يتخل عما زرعته السهوب والحكايات المنقولة غير المكتوبة لغة، لكنها المحفورة وجداناً.

الوعي بالأنسنة
إن التعامل مع الإنسان لم يكن كما يجب، فساعة يجد نفسه متهماً مرفوضاً، ويحاول أن يوجد لنفسه المسوغات للدفاع عن نفسه «أمذنب هو أم لا؟ لقد فهم أنه قد ارتكب عملاً شائناً.
لقد رفع يده على ممثل السلطة، وقد انصاع لسورة الغضب، قد قذف في الريح بكل آلامه وعذاباته من أجل الكولخوز، ودنس كل همومه ومعاناته وتأملاته.. سأحكي كل شيء عن هذا الشتاء، عن الحظيرة والمخيم العتيق المهلهل، عن الليالي المؤرقة.. أفيمكن بهذا الشكل إدارة المزرعة التعاونية واقتصادها؟.. لعلهم سيهتمون بأمر معيشتنا وأحزاننا وكوارثنا..» إن التعامل مع هؤلاء أفقده حسه الإنساني، ولكنه وضمن إطار هذا التعامل غير اللائق نجده يبحث لحصانه عن عالم من الإحساس الإنساني المتدفق، وما بين البحثين يترسخ بحثه عن أنسنة مختلفة كما يفهمها هو، لا كما يتعاملون معه.
«اقترب منتصف الليل، ولم يستطع غولساري المضي أبعد، فإلى هنا، إلى الوادي، قد بلغ ظالعاً، متوقفاً عشرات المرات ولكنه لن يستطيع بحال اجتياز الوادي وفهم الشيخ تاناباي، أنه ليس له الحق أن يطلب من الحصان أكثر من ذلك، وأن غولساري على نحو معذب، إن مثل الإنسان، وحين شرع يرقد على الأرض، لم يعرقله تاناباي. واصل الرهوان الأنين، راقداً على الأرض الباردة، وهو ينقل رأسه من ناحية لأخرى، لقد كان يشعر بالبرد، فكان يرتجف بكامل جسمه، فنفض تاناباي عن نفسه فروته، وغطى بها ظهر الحصان.
– ماذا بك؟ أحالتك سيئة؟ أسيئة تماماً؟ لقد تجمدت يا غولساري، ولكن لم تتجمد عندي ولا مرة.
دمدم تاناباي بشيء ما، ولكن الحصان الرهوان لم يستمع شيئاً، كانت دقات قلبه متقطعة مسموعة في رأسه مباشرة، على نحو مصمّ، مبهور ولاهث في سرعة: توم- تاب، توم- تاب».
الشيخ الإنسان يبحث عن تعامل إنساني لائق، يعيش في مخيم مهلهل، يرفض آلية إدارة المزرعة التعاونية، يسأل عمن يفهم كوارثه وأحزانه ومعيشته.. لا يجد ما يريد!
وأمام غولساري ماذا سيكون؟
هل كان غولساري عنده كما هو عند السلطة التي رفع يده عليها؟
غولساري يعذبه بتعبه وشيخوخته في كل لحظة.. يؤلمه لأنه لا ينجز مهامه، ويؤلمه أكثر لأنه يعامله معاملة إنسانية، ولكن غير تلك المعاملة التي لقيها من إدارة التعاونية، ولو وقفنا أمام إحساسه بغولساري فسنجد:
– ليس له الحق أن يطلب من غولساري.
– على نحو معذب.
– شرع يرقد، لم يعرقله.
– نفض تاناباي عن نفسه فروته، وغطى الحصان.
– خطابه: ماذا بك؟ أحالتك سيئة.
– شكره لمسيرة الحصان. لم تتجمد.
– محادثته دون أن يستمع.
– مراقبته لدقات قلبه المسموعة.
ولو عدنا إلى المقطع الذي يحاسب فيه في التعاونية الزراعية.
– يستدعي ليسأل ولا أحد يفكر في حقه.
– عذاب شتاء وغياب علف ومخيم مهلهل يريد أن يخبر به لا أحد يراه!
– بانتظار أن يشرح في استجواب.. يحدث نفسه وقد لا يسأل.
– يحادث نفسه عن المعيشة والمخيم، ولا أحد يغطيه بفروته.
– يستغل التحقيق ليتحدث عن معاناته.
– يرقد في الكوارث ولا أحد يتنبَّه.
مع أن المقطعين متباعدان في قصة غولساري إلا أن هذه الروح الإنسانية الطافحة عند آيتماتوف جعلته في مكانة رفيعة يبحث عن إنسانية مطلقة بمفهومها لحصان، بينما يفقد هو شرط الإنسانية.. يندفع ليحاول شرح ما يلزمه، ويندفع إلى حصانه ليعطيه ما يفتقده.
وربما كانت الإشارات إلى مجتمع آيتماتوف الأول القبلي، الرعوي، الزراعي، العقيدي من الأهمية بمكان عند قراءة أدبه، وخاصة وداعاً يا غولساري.
ففي المجتمع الزراعي يحظى الحصان بمكانة على أنه شريك.
وفي مجتمع الرعي الماشية صديق وشريك وضامن بقاء.
وفي مجتمع عقيدي تأخذ الرحمة بالحيوان مكانة مثلى.
تاناباي يعيش في مجتمع جمعيات تعاونية، لكنه شيخ أدرك ما قبله، لم يجد ذنباً لغولساري، وإن التقاه في كولخوز أن يعامله معاملة تتجافى مع حرية وديان قرغيزيا، ومع الشراكة التي حدثته عنها جدته.. هو وجد ويتحدث، ومطلوب منه أن يدافع عن نفسه ليحتفظ ببؤسه على أقل تقدير، وليحافظ على حياته.. وفي هذا إلماح إلى اعتقال والده، الملتزم بالحزب وأفكاره، ربما لم يجد الوالد الدفاع عن ذاته.
أما الحصان فهو بحاجة ماسة إلى من يشعر به، لمن يتحدث له لا عنه، لن يذهب غليه أحد، بل إن الرفاق الذين التقاهم غولساري في طريقه قد يوافقون على حشره هو، لو كان في طريقهم في جوف السيارة، أما غولساري عندهم فهو مجرد جيفة تترك للكلاب!!

الاختيار والأنسنة
في الرواية افتقاد للشرط الإنساني الذي يبحث عنه تاناباي، وآيتماتوف، فهذا ينتهي عمله، فيطرد ويؤتى بغيره شاب له القدرة والجلد، يتعلم على يدي الشيخ المتهالك، ثم يلفظ من مسكنه وعمله.. الشيخ يرى ويتألم.
وهذا رهوان يجلب، ويتم التعامل معه بشيء من التدريب والاهتمام.. لكن بعد مرور السنوات والخدمات يصبح جيفة للكلاب بنظرهم ويؤتى برهوان جديد ليكون بديلاً.. الحصان يشعر وينتظر كلمة وداعاً.. إن وجد من يشعر بأنسنته.
استعارات آيتماتوف تنطلق من بيئته الخضراء الممتدة، والأنسنة تنطلق من ذاكرة جدة ووطن، والحصان مستمد من كرامة أصله في عقيدة ينتمي إليها المجتمع القرغيزي، يجل الحصان، ويضعه في سنام التكريم.
البحث في النزعة الإنسانية، طويل وسيشكل بحثاً واسعاً، ولكن المقام يقتضي إشارات موثقة إلى هذه النزعة التي لم تستطع الحياة الآلية أن تنتزعها، وهو ما بدأت به الحديث في النص الأول:
– تصهل من مكان قريب.
– دفعته بخطمها وجعلت تتشمم.
– نخرت بلطف تدفعه للذهاب معاً.
– لم يكن في حال تؤهله للذهاب.
– كان يتشهى شرب الماء.
– أواه.. لو كانت تستطيع سقيه.
– لقد بكى الحصان لأول مرة في حياته.
بكى الحصان لأول مرة في حياته..
وبكى الشيخ تاناباي وهو يردد وداعاً يا غولساري.
وبكى آيتماتوف في خلود ملحمته الإنسانية
راح غولساري.. مات الشيخ تاناباي
وعاد آيتماتوف إلى حضن قرغيزيا ليتم ملحمته في البحث عن الإنسانية.. وها هو اليوم يوصل صرخته، وتنتصر لإنسانية الإنسان، ولشراكة الحصان النبيل ولا تعيبه بعض المواقف السياسية التي أكره عليها في الوقت الذي صار شخصية سياسية واعتبارية، ولا يمكن بحال أن تمحو مواقفه العظيمة التي كانت له في مراحل حياته المغمسة بالحب والانسانية واليسار.
ولنردد آفاق حرية آيتماتوف في عزف متفرد:
«مضى هو عبر السهب إلى الجبال، مضى مواصلاً تأملاته وخواطره الكثيرة، وفكر هو في أنه قد أصبح شيخاً بالفعل، وأن أيامه آخذة بالأفول، ولم يرد أن يموت طيراً وحيداً، منفرداً، منفصلاً من سربه ذي الأجنحة السريعة، أراد أن يموت في الطيران لأجل أن يتحلق حوله بهتافات الوداع أولئك الذين نشأ معهم في عش واحد، والذين سلك معهم وواصل ذات الطريق..
أليس آيتماتوف وحبه للحياة والطيران والحرية؟
أليس الطيران حرية؟
أليست السهوب والجبال عشه؟
أليست قرغيزيا وطبيعتها؟
عاد ليطير، فطار وأبدع ثم سكن طائراً باقياً فيها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن