ثقافة وفن

«ويكَ أم الجبابرة، من رماك بسوء قصمه الله..» .. لا يعرف أحد سر دمشق ولا يمتلك أحد الحقيقة الكاملة عن سرها

| شمس الدين العجلاني

قصص وحكايات.. وقائع وأحداث… غزوات وحروب وفتن.. نكبات وكوارث، مرت على بلادنا ولم تزل الحكايات تروى والفتن تحاك، والشام باقية شامة الدنيا….
حكايات تناقلها الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد.. حكايات تناقلتها وسطرتها كتب التاريخ عن سورية التي تصنع الحضارة وتسطر التاريخ.. إنها سر الكون والتكوين لم تزل باقية ترد الأذى عن العرب والعروبة وتنشر المسيحية والإسلام…
أساطير.. نبوءات.. حكايات.. سحر.. خيال.. واقع، كل ذلك يتداخل في وقائعها، إنها الشام التي لم يزل سرها غامضاً، ولكننا جميعاً نعلم وندرك أن الرب يحميها…
في تاريخها الطويل العريق الذي يمتد لآلاف السنين، تقلب على دمشق أقوام وأقوام، وعرفت من المجد لحظات ندر أن عرفتها مدينة أخرى. وعرفت من الأيام السوداء ما يبكي الحجر. ولكنها لم تعرف مذلة اليأس، فدمشق عميدة المدائن كانت ولم تزل تحمل التفاؤل المشبع إيماناً بالحياة، وأنها أقوى من الموت، والشدائد.. تنفض غبار الأيام وتعود لتقف شامخة في وجه كل الغزاة. وبقيت وستبقى دمشق، دمشق الرقم الصعب، حاملة لواء العرب والعروبة، لا يعرف أحد سر دمشق ولا يمتلك أحد الحقيقة الكاملة عن سرها، عظمتها، حضارتها، قوتها، قدسيتها… ولكن جميعنا يثق أن هنالك إلهاً يحمي دمشق.
البداية

من الفتن التي مرت على بلادنا، هو الاقتتال الشرس بين العباسيين والأمويين ففي عام 750 اجتاح العباسيون دمشق، بعد حصارها وبعد انتصارهم على جيش مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين في معركة الزاب؛ وقد ارتكب العباسيون أعمال قتل، ونهب، وتخريب في المدينة.
حين هُزم مروان بن محمد في معركة الزاب على يد عبد اللـه بن علي عم الخليفة العباسي الأول أبي العباس السفاح، تابع جيش العباسيين مسيره من شمال العراق قاصدًا دمشق التي كان مروان بن محمد قد تحصّن بها، غير أن أهل دمشق ولاسيما القبائل القيسية رفضوا مناصرته بل وقفوا ضدّه، فتن عديدة نشأت منذ ضعف الدولة الأموية كان منها نقل مروان بن محمد عاصمة الدولة من دمشق.
حاصر العباسيون دمشق من جميع جهاتها، ورغم ضعف إمكانات الأمويين إلا أن المدينة صمدت شهراً ونصف الشهر كما تنقل أغلب الروايات بسبب متانة أسوارها وشدة تحصينها، ثم تمكن العباسيون من نقب السور عند باب الصغير ودخلوا المدينة، ارتكب العباسيون عند دخول دمشق قسطاً وافراً من عمليات النهب والتدمير، وقال المؤرخ المقدسي إن عبد اللـه بن علي أمر بأن يهدم سور دمشق حجراً حجراً وقال ابن عساكر إن الجند العباسيين كانوا يجزّون الرؤوس في الطرق وينهبون ما يحصلون عليه من الأموال، كما قتلوا أغلب أعضاء الأسرة الأموية وصلبوا بعضهم الآخر، ويقول البلاذري إن زوجة هشام بن عبد الملك اقتيدت إلى البرية وهي سافرة وحافية ثم قتلت فيها، كما أقدمت ابنة مروان بن محمد على الانتحار.

من عبد اللـه بن علي؟
عبد اللـه بن علي بن عبد اللـه بن عباس بن عبد المطلب هو عم السفاح والمنصور، من الرجال الدهاة وكان شجاعاً مهيباً جباراً عسوفاً سفاكاً للدماء به قامت الدولة العباسية سار في أربعين ألفاً أو أكثر فالتقى في معركة مع الخليفة مروان بن محمد بالقرب من الموصل فهزمه ومزق جيوشه ولج في طلبه وطوى البلاد حتى نازل دار الخلافة الأموية في دمشق فحاصرها أياما وأخذها بالسيف، ثم جهز في الحال أخاه صالح بن علي في طلب مروان إلى أن أدركه بقرية بوصير في مصر فقاتل مروان حتى قتل وهرب ابنا مروان عبد اللـه وعبد الملك إلى الحبشة وانتهت الدولة الأموية ولما مات أبو العباس السفاح زعم عبد اللـه أنه ولي عهده وبايعه أمراء الشام وبويع أبو جعفر المنصور بالعراق وندب لحرب عمه صاحب الدعوة أبا مسلم الخراساني فالتقى الجمعان بنصيبين فاشتد القتال وقتل خلق كثير وعظم الخطب ثم انهزم عبد اللـه وقصد البصرة فأخفاه أخوه سليمان مدة ثم ما زال المنصور يلح في طلبه حتى أسلمه فسجنه سنوات فيقال حفر أساس الحبس وأرسل عليه الماء فوقع على عبد اللـه في سنة 147هـ .

عبد اللـه بدمشق
بعد معركة الزاب الكبرى أو معركة الزاب الأعلى، التي وقعت في 11 من جمادى الآخرة عام 132هـ الموافق 25 كانون الثاني 750م وسميت بهذا الاسم؛ لأن أحداثها وقعت عند نهر الزاب الكبير، أحد روافد نهر دجلة، ويقع في شمال العراق، ويتصل بدجلة من جهته اليسرى. ‏
وقعت المعركة بين الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد والأمير العباسي عبد اللـه بن علي. واستمرت المعركة بينهما تسعة أيام، اقتتلا فيها قتالًا شديدًا ومات عدد كبير من الجيشين.
انهزم جيش مروان وفر إلى مصر حيث قُتل في مدينة بوصير فكان آخر خلفاء بني أمية في الشام. ‏ وبمقتله انتهت عملياً الخلافة الأموية ولذلك تعد إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، ولم ينجُ من الأمويين إلا عبد الرحمن بن معاوية المُلقب بـعبد الرحمن الداخل، الذي بدوره فر إلى الأندلس وأسس الدولة الأموية الثانية بها.
دخل عبد اللـه بن علي إلى دمشق ونزل عند الباب الشرقي، وفتحت له المدينة أبوابها يوم الأربعاء 10رمضان 132هـ/26 نيسان750م. ويذكر ابن عساكر: «أن أهل دمشق لما حاصرهم عبد اللـه اختلفوا فيما بينهم، ما بين عباسي وأموي، فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضاً، حتى إنهم جعلوا في كل مسجد محرابين للقبلتين، وإمامين يخطبان يوم الجمعة على المنبرين، وهذا من عجيب ما وقع، وغريب ما اتفق، وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية».
قتل عبد اللـه خلقاً كثيراً من أهل دمشق وأباح المدينة لجنده الذين عاثوا فيها فساداً ونهباً وقتلاً، وهنالك من يروي، أنه قتل بها في هذه المدة نحواً من خمسين ألفا ومن ثم هدم سورها وأقام بها خمسة عشر يوماً، ثم سار إلى الأردن وفلسطين.
وبهذا الصدد يروي ابن عساكر، على لسان محمد بن سليمان بن عبد اللـه النوفلي: «كنت مع عبد اللـه بن علي أول ما دخل دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتل فيها ثلاث ساعات… وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي: عبدة بنت عبد الله، إلى البرية ماشية حافية حاسرة على وجهها وجسدها وثيابها ثم قتلوها».

هدم سور دمشق
لما جاء عبد اللـه بن علي دمشق نزل على الباب الشرقي، ونزل صالح أخوه على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، فحاصرها أياما وقيل بل خمسة أشهر، وقيل مئة يوم، وقيل شهراً ونصف الشهر.
في دمشق أمر الأمير العباسي عبد اللـه بن علي بن عبد اللـه بن عباس بإحراق الجثث وهدم سور المدينة، فخربت أجزاء كبيره منه، وهكذا أهملت أبواب دمشق وسورها ولم يسمح بترميمها حتى قدوم العهد السلجوقي الذي أولى السور والأبواب الاهتمام الخاص فأُنشئت قلعة دمشق عند الزاوية الشمالية الغربية من السور عام 741هـ/ 1078م ورُممت الأسوار وحُصّنت وهكذا صمدت المدينة أمام ثلاث حملات صليبية فشلت جميعها في اقتحام سورها.
تذكر أغلبية الدراسات أنه عندما أمر عبد اللـه بن علي بهدم سور دمشق، وأثناء الهدم وقع حجر منقوش عليه كتابات يونانية، فأمر أن يأتيه القوم بمن يترجم ما كتب على الحجر.. وتبين أنه مكتوب عليه باليونانية: «ويكَ أم الجبابرة، من رماك بسوء قصمه الله..».

احذروا دمشق
ويروي المؤرخ الدمشقي ابن عساكر «أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة اللـه بن عساكر الدمشقي (499هـ- 571 هـ) الإمام والعلامة الحافظ الكبير..» في كتابه «تاريخ مدينة دمشق» حادثة هدم السور والنبوءة اليونانية فيقول: «أَنْبَأَنَا أبو مُحَمَّد هبة اللـه بن أحمد، حدثنا عَبْد العَزِيز بن أحمد، أَنْبَأَنَا تمام بن مُحَمَّد، حدثني أبو الفتح الحقود مُحَمَّد بن أحمد بن أَبِي عطاء من موالي عُثْمَان بن عفان يعرف بابن صريرة، قَالَ: قرأت فِي بعض كتب الفتن ليحيى بن حمزة ببيت لهيا من الكتب العتيقة بإسناد لا أحفظه، قَالَ: لما هدم عَبد اللـه بن عَلِيّ بن عَبد اللـه بن عَبَّاس بن عَبد المطلب سور دِمَشْق وقع مِنه حجر مكتوب عَلَيْهِ باليونانية، فطلب من يقرؤه، فلم يجد أحدا يقرؤه حَتى دل عَلَى رجل بالجزيرة، فوجه خلفه، فقرأه، فإذا فيه: ويك إرم الجبابرة، تعيشين أربعة آلاف سنة رغدا، فالويل لك من الخمسة الأعين: عين بن عين بن عين بن عين بن عين فإذا وهى منك الجناح الشرقي، ووهت الطايات من جيرون بعث اللـه عليك من يحلل منك العقد، ويتداعى عليك العرب، فيصابون فِي كُلّ سهل وجبل لا يعبأ اللـه بهم شيئا، وإذا وهى منك الجناح الغربي أديل لك ممن يعرض بك..».
هي سورية بعظمتها وجبروتها، صمدت أمام كل الغزوات والمؤامرات عبر تاريخ عمره آلاف السنين وانتصرت… هي سورية أم الحضارات.. سورية اللـه حاميها.

المراجع: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير– تاريخ دمشق لابن عساكر– أرشيفي الخاص.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن