بين الشرق والغرب.. صراع مصالح أم مبادئ!
| بسام أبو عبد الله
يذهب الكثير من المحللين في منطقتنا والعالم في تفسير الصراعات المحتدمة في وقتنا المعاصر صوب المصالح الاقتصادية وحروب الطاقة وإعادة رسم الخرائط وتدمير الشعوب والدول للوصول إلى الأهداف المتوخاة، من دون النظر في بُعدٍ آخر لهذه الصراعات، وهو البعد المرتبط بالمبادئ والعقائد والفلسفات، وهو بعد لا يوليه الكثيرون الاهتمام المطلوب، وينظرون إليه بأنه بعدٌ لا أهمية له أمام المال والنفط والشركات العملاقة، فالغرب الإمبريالي يلجأ إلى مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» حتى لو كانت داعش وجبهة النصرة والمجازر والتضليل الإعلامي والخداع والكذب وتوظيف الدين، فلا مشكلة لديهم، المهم: السيطرة والوصول إلى الأهداف المتوخاة، على حساب كل القيم الإنسانية والأخلاقية وما تعلمته البشرية من خلاصات ودروس، بعد حربين عالميتين انهتا حياة ملايين البشر، ودمرت بلداناً ومدناً وشعوباً! لا يهم، المهم النفط والطاقة والهيمنة، المهم أن يكون لدينا عبيد يعملون بإمرتنا وتحت أقدامنا.
يبدو أمر الحديث عن المبادئ في زمن الانهيار الأخلاقي، الذي نشهده هذه الأيام، مسألة مستهجنة لدى البعض، بالرغم من أنني أراها جوهرية وأساسية، لما يشهده العالم عامة وسورية خاصة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء كلمته أمام منتدى فالداي مؤخراً، أضاء على هذه القضية بشكل كبير، فماذا قال من نقاط مهمة وضرورية، لابد من فهمها من أجل الولوج أكثر لعمق المقاربة الروسية للقضايا العالمية، ومنها سورية:
يرى بوتين أن العالم في عصر تغيرات جذرية ذات طابع اجتماعي وأمام ديناميات حياتية جديدة، وثورة معلوماتية تكنولوجية وكل هذا يترافق مع تغيرات تشهدها الساحة الدولية، ما يؤدي إلى زيادة المنافسة بين الدول.
يؤكد بوتين نقطة مهمة وهي: أن العديد من الوصفات القديمة لإدارة العالم لم تعد تصلح لحل النزاعات والصراعات والتناقضات، والحقيقة أن مقاربات ورؤى جديدة لم توضع بعد!
يضيف: إن مصالح الدول لا تتطابق إلى حد بعيد، وهذا شيء طبيعي وكان دائماً كذلك عبر التاريخ، فلدى الدول العظمى استراتيجيات جيوبولتيكية مختلفة ورؤى للعالم، وهذا أمر يشكل جوهر العلاقات الدولية الذي لا يتغير، والقائم على التوازن المتبادل والمنافسة.
يلخص بوتين جوهر الصراعات المحتدمة في العالم بأنه ناجم عن الخلل في التوازن، وعندما تصبح قواعد الوصول للمصالح تقوم على قاعدة واحدة «الوصول بأي ثمن» أي «الغاية تبرر الوسيلة»، وهنا حسب رأي بوتين تصبح التناقضات غير قابلة للتنبؤ، وخطرة وتقود لصراعات قاسية، ولا يمكن إيجاد حلٍ لأي مشكلة دولية قائمة.
يسمي بوتين الأشياء بمسمياتها حينما يصف السياسة الأميركية والغربية بأنها سياسة «ديمقراطية الأيادي الحرة» التي لا تجد من يضبطها، فتنتج عوامل راديكالية، ومجموعات متطرفة تهدد الحضارة نفسها، وتحاول قلب الأمور باتجاه الفوضى والتوحش.
مثال ذلك ظهر في الشرق الأوسط حينما عملت الولايات المتحدة ومن خلفها حلفاؤها على فرض نموذج من الخارج للتطور عبر تنظيم انقلابات واستخدام القوة العسكرية والثورات الملونة.
أما مقاربة روسيا فكانت عبر ضرب الإرهاب، ومنع الفوضى بالتعاون مع الحكومة الشرعية في سورية، والمؤسف حسب رأيه، أن هناك في الغرب من يعتقد حتى الآن أنه بالإمكان إدارة الفوضى التي خلقتها سياساتهم.
روسيا تتناقض هنا مع المقاربات الأميركية في أوكرانيا وكوريا وليبيا، ويرى بوتين أن أكثر العقد تعقيداً لابد من حلها، وليس قطعها، كما ترى أميركا!
اللعب أصبح «على المكشوف» هو ما يفهم من كلام بوتين، فالرجل قالها في فالداي بوضوح شديد: إن البعض يضع حججاً سياسية للوصول لأهداف تجارية! ويرى أنه بالطبع لكل دولة مصالحها السياسية والاقتصادية، والسؤال هنا: أي وسائل تستخدم للدفاع عن مصالحها؟
خلاصة بوتين هي التالية: «لم يعد بالإمكان تحقيق مكاسب إستراتيجية على حساب الآخرين! لأن مثل هذه المقاربة هي مقاربة أنانية، واستعلائية ولا تحترم الآخرين، ولن تجلب إلا مواجهة عادلة، والحل: هو البحث عن نظام عالمي متوازن ودائم، يجيب عن التحديات التكنولوجية والبيئية والمتطلبات الإنسانية التي تواجه البشرية اليوم.
مقابل هذه المقاربة العقلانية التي تحفظ للآخرين مصالحهم وتراعيها، وتبحث عن حلول تجنب الشعوب الدمار الذي تسببت به السياسات الرعناء للغرب، نجد مقاربة تائهة وفوقية ومخادعة تحاول أميركا تسويقها، فلم يكفِ أميركا تسعة فيتوهات روسية لفهم أن العالم تغير، وأن الشعوب لم تعد تقبل الإملاءات والفوقية الأميركية والتنظير، ومن هنا تشعر أميركا بأن يديها اللتين أطلقتا في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 قد أصبحتا مقيدتين بقوى صاعدة تقول نعم أو لا، وبقوى تحترم حقوق الشعوب وإراداتها، وتريد وقف الفوضى التي تسببت بها السياسات الرعناء الأميركية.
لقد قدمت سورية نموذجاً للدول التي واجهت مشاريع الهيمنة والفوقية، والعودة للاستعمار المباشر من دماء أبنائها وتضحيات شعبها، بدعم أصدقائها وحلفائها، والأهم أن تدرك الولايات المتحدة أن زمن كذبها قد ولى، وأن اسطواناتها المشروخة بشأن الحرص على مستقبل الشعوب وحرياتها، أصبحت من الماضي، فلم تعد أميركا النموذج، بل سقطت كل أقنعتها أمام دمار الرقة، وقتل الأبرياء السوريين في كل مكان باسم «مكافحة الإرهاب»، وتتكشف كل يوم جرائم أميركا التي تفوح منها رائحة مصالح الشركات ومصاصي الدماء في هذا العالم، ولم يعد بإمكانها الكذب أكثر من ذلك، وستواجه مخططاتها بكل حزم، وقوة بإرادة الشعب السوري، وأحرار العالم الذين يحملون مبادئ تحترم الآخر، ولا تدمره بالمبادئ المخادعة.
قبل فترة انتشر فيديو معبر عما وصلت إليه الولايات المتحدة، ويتضمن محتوى هذا الفيديو طالبة أميركية مخدوعة بما يروج له الإعلام الأميركي تسأل ثلاثة محاضرين في ندوة جامعية السؤال التالي:
هل بإمكانكم أن تلخصوا لي في جملة واحدة، أو أقل، ما سبب كون أميركا أعظم دولة في العالم؟
تجيب أستاذة: بالطبع: التنوع الثقافي والفرص. أما الأستاذ الثاني: فيقول الحرية ثم الحرية، ويجب أن نبقى على هذا النهج ليعلو التصفيق في القاعة. لكن الأستاذ الثالث وهو إعلامي معروف فيفاجئ الجميع بجوابه الصاعق: لا لسنا أعظم دولة في العالم. ويتوجه بكلامه للقاعة: إن الجمعية الوطنية للإعلام التي نمولها لا يمكنها نشر عمود واحد بعرض إنش، أو إسماع صوت واحد، لأنهم ببساطة يحاربوننا.
ويسأل الطالبة: هل تعلمين لماذا يكره الناس الليبراليين؟ ويقول: لأنهم يفشلون دائماً، ويخسرون دائماً، وهل تريدون القول: إن سبب نجاحات أميركا سابقاً أنها بلد حرية، ما هذا الهراء؟ فكثير من دول العالم تكفل الحريات.
والحقيقة: إنه لا دليل حقيقياً على أننا أعظم دولة في العالم، فأميركا هي الدولة السابعة عالمياً في مستوى الأمية، والـ27 في مجال الرياضيات، والـ22 في مجال العلوم، والـ49 في معدلات الحياة، والـ178 في معدل وفيات الرضع، والثالثة في مستوى دخل الأسر، والرابعة في مجال القوى العاملة، والرابعة في التصدير.
ليتابع وهنا المهم: أميركا تتصدر العالم في ثلاثة أشياء:
1- معدل المساجين بالنسبة لعدد السكان.
2- عدد البالغين الذين يؤمنون بوجود الملائكة.
3- الإنفاق العسكري، إذ تنفق أميركا أكثر من الدول الـ26 التي تليها مجتمعة، وكلها دول حليفة.
يلخص الأستاذ الأميركي للطالبة بالقول: إن المشكلة هي في هذا الجيل الذي ما زال يعتقد أننا أعظم دولة في العالم؟ والحقيقة المرة: إننا كنا أعظم دولة في العالم، ولكن عندما فقدنا أبعادنا الأخلاقية وإنسانيتنا، لم نعد كذلك، فالخطوة الأولى لحل أي مشكلة، هو الاعتراف بوجودها، والحقيقة أن أميركا لم تعد أعظم دولة في العالم بعد الآن.
هذه الحقيقة المرة التي يعرضها فيلم أميركي لا يريد قادة أميركا الاعتراف بها، وهي نفس الحقيقة التي قالها بوتين في فالداي.
الآن أين المبادئ هنا: كلام بوتين واضح، وما عرضه الأستاذ الأميركي أكثر وضوحاً، وعندما تقرأ أن الصين تمكنت من انتشال أكثر من 700 مليون شخص من براثن الفقر في عموم أرجاء البلاد، وتطمح للقضاء على الفقر حتى عام 2020، وتتحدث عن بناء «مجتمع المستقبل المشترك للبشرية» عبر مشروع الحزام والطريق، ندرك تماماً أن الصراع بين الشرق والغرب ليس صراع مصالح فقط، إنما صراع بين رؤى مختلفة لمستقبل العالم والبشرية بين رؤى متوحشة، إجرامية تريد الاستمرار بالسيطرة على العالم بأي ثمن، ورؤى صاعدة حضارية تريد التشارك مع الآخر لبناء عالم أكثر توازناً يحترم فيه كل طرف مصالح الآخرين، والأهم ثقافاتهم وهويتهم وتاريخهم وحقهم في تقرير مستقبلهم بأنفسهم.