ثقافة وفن

في رحاب اللغة وقضاياها المعاصرة … د. محمود السيد: لغة التدريس زاخرة بالعامية والأخطاء اللغوية.. وقصور في أداء المعلمين

| آلاء جمعة

د. محمود أحمد السيد في نزهة ماتعة في رحاب اللغة المعشوقة ليضع أمامنا أفكاراً نيرة وعظيمة هي أروع ما يكون إذا أردنا إنصاف اللغة وإحياءها من جديد وبث الروح في أوصالها المتهالكة، فلو وضع هذا الكتاب القيم موضع التنفيذ وأخذ بالحسبان والجد كل كلمة فيه وكل نصيحة لعادت اللغة إلى أيام الصبا والزهو تلك الأيام التي نبكيها جميعاً ولكن لا نقدم لها شيئاً كي نسوقها في حلة جديدة شامخة باسقة إلى جانب لغات العالم التي نمت وترعرعت على عرش الأذهان والقلوب وأسواق العمل أيضاً.
الكتاب امتد في ثلاثمئة وتسعين صفحة من القطع المتوسط وصدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
في المقدمة يقول الكاتب موضحاً غاية الكتاب ورؤيته له: «ما تزال شؤون لغتنا العربية متشعبة في قضاياها ومتعددة في مشكلاتها، وحاثة أبناءها الغيارى على تشخيص عللها وتقديم الدواء الناجع لسلامتها، وما البحوث التي يشتمل عليها هذا الكتاب إلا محاولة من محاولات كثيرة، تسلط الأضواء على واقع لغتنا العربية بين امتدادها الذي عرفته عبر تاريخها، وبين الانحسار الذي تعانيه حالياً في ظلال عولمة متوحشة تروم استبعاد هويات الشعوب وذاتيتها متمثلة في لغتها حاملة ثقافتها».

بين الامتداد والانحسار
عالج الفصل الأول من الكتاب حال اللغة العربية بين مدها وجزرها وسلط الأضواء على تحديات تعليم العربية في التعليم العام بالوطن العربي، في الفصل الثاني يوضح أن أول من أسهم في نشر العربية واتساع أرجائها كان قرار الخليفة عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين وفتح باب الترجمة العلمية على مصراعيه في عهد الخليفة المأمون فهذان القراران تجاوزا باللغة العربية إطارها الديني إلى الإطار السياسي والحضاري «ولا أدل على امتداد اللغة العربية من وجود مفردات عربية في ثماني لغات عالمية» ومنها التركية إذ بلغت الكلمات العربية فيها 6463 كلمة في صلب موضوعات الأدب والفكر والسياسة، وكانت العربية اللغة الأكثر ترجمة في العالم حتى عصر النهضة والإصلاح، ومما يزيدنا دهشة أن ثمة مليون مخطوطة عربية موزعة في أرجاء العالم. «ومن أمارات امتداد اللغة العربية وانتشارها اعتمادها لغة عالمية بين اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة، وهي الرائجة عالمياً من حيث عدد المتكلمين بها، ومرجعية حضارية دينية لأكثر من مليار مسلم غير عربي» أما عن انحسار اللغة فيقول الكاتب إن الأمر منوط بعاملين أحدهما أعداء الأمة واللغة ممن يسعون إلى طمس حضارتنا وهويتنا، وثانيهما نفر من أبناء الأمة سار في فلك الأعداء عن وعي أو عن غير وعي، «ومن محاولات الأعداء في انحسار اللغة العربية واستبعادها ما حصل في جنوب السودان بعد انفصاله إذ اعتمدت حكومة الجنوب اللغة الإنكليزية لغة رسمية لها، وما حصل في احتلال العراق إذ حُطم ضريح نبوخذ نصر، وسوّي بالأرض، وأصبح موقعه موقفاً للسيارات العسكرية الأميركية وتمت سرقة مليون كتاب من أمهات الكتب وسرقة ثمانية ملايين وثيقة، وسرقة 170000 لوحة أثرية منها 14000 لوحة ليس لها مثيل» وأما عن حال تعليم العربية واستخدامها في جامعات الوطن العربي فحدث ولا حرج فأغلبية الدول وخاصة الخليج تعتمد اللغة الأجنبية في مقرراتها التعليمية حتى في مقررات المدارس ودول المغرب العربي كذلك الأمر تعتمد على الفرنسية التي تطغى على العربية بامتياز «وفي الدول العربية التي تدرس جامعاتها ومدارسها المقررات بالعربية فإننا نجد أن لغة التدريس فيها زاخرة بالعامية وبالأخطاء ا للغوية وبالهجين اللغوي أيضاً».

بؤرة الألم ومحطة البداية
ما زال تعليم العربية في مدارسنا يئن عفونة وتخلفاً منذ زمن بعيد وحتى اليوم كل شيء يذهب للتجديد والتطوير إلا وسائل التعليم في مدارسنا وخاصة للغة العربية التي تزرع في القلوب قبل العقول وتحتاج أساليب عصرية متنوعة كي تمازج العقول بسلاسة وخفة فتخرج لنا أجيالاً محبة للغتها ومتقنة لها وتتفانى من أجل خدمتها. وفي هذا الفصل يحدد لنا الدكتور محمود أبرز وأهم المعضلات التي يعاني منها سلك التعليم العام ولا يكتفي بهذا الأمر بل يقدم عدداً من التوصيات الرامية إلى مواجهة هذه التحديات ويعدد منها: القصور في أداء المعلمين، القصور في بناء المناهج واختيار المحتوى، تخلف طرائق تعليم اللغة وتعلمها، الفقر في استخدام التقنيات الحديثة وأخيراً القصور في أساليب التقويم «ما يزال التقويم في الأعم الأغلب يقتصر على الحفظ والتسميع ومحاسبة المتعلم إن هو خرج عما هو موجود في الكتاب، ولا يقيس التقويم إلا المستوى الأول من مستويات المعرفة ألا وهو الحفظ والتذكر والاسترجاع، أما بقية المستويات متمثلة في الفهم والربط والتحليل والتركيب والنقد والتفاعل والتوظيف فلا تحظى بالعناية والاهتمام الكافي كما أن التعبير الشفهي والمحادثة يتعرضان إلى الإهمال في القياس غالباً».
في الجامعات العربية

يتضح من خلال الواقع أن اللغة العربية ليست بأحسن أحوالها فهي مستبعدة في الأعم الأغلب وتحل محلها الإنكليزية والفرنسية وانحصر أحياناً استعمالها في كليات الآداب والعلوم الإنسانية!
وهذا ما يؤدي إلى ضعف مستوى الخريجين ومما تقوله بنت الشاطئ في هذا: «نسمع أساتذة كباراً يحاضرون العربية أو يلقون أحاديث في أندية ثقافية، ونقرأ لهم ما يكتبون من بحوث ومقالات فندرك ما يعانون من إحساس باهظ بمقدرة اللغة التي ترهقهم بالشعور بأنهم لا يمتلكون أداة التعبير السليم الطلق عن أفكارهم وآرائهم».

تكرار الذات وفقد الأدوات
«وغني عن البيان أن المدرس الذي يقولب نفسه في إطار طريقة واحدة يلتزم بها في دروسه كافة، وأسلوب معين ينتهجه في المواقف كافة، محكوم عليه بالإخفاق، ذلك لأن الطريقة لا تصنع المدرس، وإنما هو الذي يبتكرها ويكيّفها وفق المادة والوسيلة والأجواء والمستويات»، وهنا يشكر الدكتور لبيانه لأننا نحتاجه جداً ولسنا أغنياء عنه!

على درب النهوض
«ثمة أمور يمكن في حال تحقيقها أن نرتقي بواقع تدريس اللغة العربية في الجامعات العربية ومنها: إحداث تغييرات جوهرية في طرائق التدريس وتوظيف تقانة المعلومات والاتصالات الحديثة وإخضاع أعضاء الهيئة التدريسية إلى دورات تدريبية، وتنويع أساليب التقويم وأخيراً التنسيق بين منظومة التعليم الجامعي ومنظومة التعليم ما قبل الجامعي، وكفانا تقاذف الكرة وتحميل المسؤولية لطرف دون آخر!«.
وفي الفصل الرابع ألقى الدكتور محمود الضوء على بعض من سمات العصر الحاضر، ووقف على عدد من المزايا التي وفرها للارتقاء بواقع تعليم اللغة وبين سبل هذا التعليم في عدد من الوسائل، أما في الفصل الخامس فقد وقف على مناحي التجديد اللغوي، والتجديد اللغوي لقي جدالاً وحواراً ساخناً بين المجددين والمحافظين، ولكل فريق حججه ونظرته إلى الأمور.
والتيسير الذي دعا إليه الكاتب تيسير محتشم إن صح التعبير فيقول: «أي تحاشي التعقيدات وتذليل الصعوبات التي فرضها التزمت والتصنع والتقعر، ويعني تبسيط القواعد من نحو وصرف والتغذية بالمصطلحات الجديدة، بما في ذلك التداخل بين الدارجة والفصيحة على أن يكون ذلك كله في حدود لغة سليمة قابلة للاستعمال والانتشار».
وإلى هذا أشار الدكتور طه حسين قائلاً: «إذا كان المتكلمون باللغة العربية تنقصهم الحياة فلا عيب على اللغة ألا تحيا، وإذا كانت تنقصهم المرونة فلا عيب فيها ألا تكون مرنة، لأن العربية ليست شيئاً يعيش في السماء، أو يعيش في الجو، بل هي شيء يعيش في النفوس والقلوب، وتنطق به الألسن، شيء ملازم للأحياء يؤدي ما في نفوسهم». فالجمود في اللغة كالجمود في الشرايين يورث الشلل على حد تعبير الأديب أمين الريحاني، فلا نذهب إلى تقديس اللغة ونتجنب أي تجديد يطولها ولا نذهب بها إلى الضياع والتجريد من المبادئ والقواعد التي تنطق بهويتها.
وفي هذا يذكر الدكتور قول أحد الشعراء.
جاروا عليها زاعمين صلاحها
في نبذ طارفها وفي تقييدها
لم يفقهوا أن اللغات حياتها
في بعث تالدها وفي تجديدها

(التوفل) العربي Tanal
ولما كانت الكفاية اللغوية من القضايا المهمة والمطروحة على الصعيد العربي تناول الفصل الخامس هذه الكفاية مفهوماً ومعياراً ومقياساً وعرف ببعض الاختبارات المعدة لهذه الغاية على الصعيد القومي.
سورية أنموذجاً

لطالما حافظت سورية على مبادئها وثوابتها واعتزت بهويتها التي لا تكون إلا باللغة التي احتضنت ذاكرتها الطويلة وسجلت صفحات عروبتها وتاريخها الطويل، ولسورية السبق دائماً في هذا المجال ففي الفصل السابع من الكتاب يعرض لنا الكاتب تجارب عديدة في خدمة اللغة العربية نعتز بتجربتنا الفردية المتفردة كأنموذج يحتذى به وهي تجربة اللجنة العليا للتمكين للغة العربية، وعندما كانت سورية هي المثال أصدرت القانون لحمايتها منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، وظلت متمسكة باعتمادها لغة التعليم والإعلام والتواصل.. إلخ، وبذلت الجهود الكبيرة للتمكين لها على أن تستأنس الدول العربية الأخرى بالتجربة السورية وتجربة مجمع اللغة العربية أبي المجامع اللغوية على الصعيد العربي في وضع المصطلحات «حدد القرار الجمهوري مهمة اللجنة بإنجاز خطة عمل وطنية تستهدف التمكين للغة العربية، والحفاظ عليها والاهتمام بإتقانها، والارتقاء بها ومتابعة خطوات التنفيذ بالتعاون مع الجهات المعنية على أن ترفع اللجنة المشكلة تقاريرها إلى السيدة نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية الدكتورة نجاح العطار شهرياً، وتتلقى توجيهاتها وملاحظاتها بهذا الخصوص».
وبعض الأمور المهمة التي رسمتها الخطة في مجال وزارة الإعلام: «بث برامج تعنى بتصويب الأغلاط الشائعة في لغة الحياة، بث برامج تعنى بتسليط الأضواء على الكتب المهمة وإدارة حوارات نقدية لها، رفض الأعمال الدرامية المصوغة باللهجات المحلية وعدم الموافقة على إنتاج هذه الأعمال بالعامية، بث برامج تعنى بتسليط الأضواء على أعلام في تراثنا القديم والمعاصر خدموا اللغة العربية ووقفوا نتاجهم على ذيوعها وانتشارها».

تجربة مجمع اللغة العربية في دمشق أنموذجاً
ومن إنجازات المجمع التي فصل فيها الدكتور محمود في الفصل الثامن: «قام الدكتور مأمون الحموي بوضع المصطلحات الدبلوماسية، وقد طبع المعجم في دمشق واشتمل على 400 مصطلح، والمعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية للأستاذ الدكتور جميل صليبا، والكثير من المعاجم التي أغنت الصندوق اللغوي وأضافت روحاً وجمالاً للغة».

في الختام
«تجدر الإشارة إلى أن الأوضاع الصعبة والأليمة التي مرت بها سورية في السنوات الست الأخيرة قد انعكست سلباً على أداء مجمع اللغة العربية في دمشق، إذ لم يتمكن المجمع من عقد مؤتمراته السنوية التي كان يحضرها رؤساء مجامع اللغة العربية في الدول العربية، ولم يتمكن من رفع وتيرة نسبة الكتب التي يطبعها، ولا من الاشتراك في المعارض والمؤتمرات الخارجية، ومع ذلك كله فإن لجان المجمع لم تتوقف عن أداء عملها»، فاللغة العربية هي الرباط الذي يربط بين أبناء الأمة الواحدة ويحافظ على هويتهم وذاتيتهم الثقافية، فهي رمز لكيانهم وهي وطنهم الروحي، وذاكرة أمتهم والموحدة لرؤاهم ومشاعرهم في بوتقة اللقاء والتفاهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن