اقتصاد

ما «أبعد» من الحرب

| علي محمود هاشم

رغم ارتباطها العضوي بإعادة الإعمار، تخترق مهام اللجان القطاعية المولجة صياغة برنامج «سورية ما بعد الحرب» و«قانون الاستثمار»، سياقات البعد الزماني لهذا المفهوم.
بغض النظر عن الصعوبات التقليدية التي تعترض وضع نواظم البنيتين التحتية والفوقية للمجتمع، ثمة تحدّ يتعدى الشعارات الأخلاقية التي تعنون هذه الجهود عادة، ففي شق الاقتصاد الذي تحكم «العصرية والمواكبة العالمية» تطلعاتنا إليه، يتسربل السؤال عن الحامل الزماني لإعادة الإعمار بكونها أحد مركبات البنى التحتية، وانعكاساتها على قيمنا الفوقية الذاهبة شرقاً.
يجدر بمبادرتي «سورية بعد الحرب وقانون الاستثمار» أن تذعنا «للعصرية والعالمية» بالفعل، وبغض النظر عما طرأ على هذين المفهومين من تبدل جراء انزياح دفّة العولمة الاقتصادية مؤخراً، فذلك قد لا يكفي، إذ يُنتظر من كلا فريقي المبادرتين أن يتآخيا حقاً مع التاريخ والجغرافيا لاستخلاص الخصوصية السورية.
فمنذ خمسة قرون، أُقفلت جغرافيتنا على ذاتها قسرياً، توقف عصرها العالمي وحلّ عصر «الشعر»: من بنية تحتية تختزن اقتصاداً تتزاحم على دروبه منتجات الشرق والغرب، إلى بنية فوقية مثخنة بالحنين إلى الماضي!.. وعلى العصرية التي ننشدها أن تتصالح مع هذا التاريخ وتمتثل لعمقه الزماني في «إعادة الإعمار» وصولاً إلى المعاني التجارية للعشق الذي جمع أسرة هان الصينية يوماً، بممالك تدمر وفينيقيا.
وفق هذا المنحى، يجب بمبادرات تعافينا التشريعية العودة بجغرافيتنا إلى حالتها التاريخية، يتطلب الأمر معونة من متخصصي الجغرافيا والتاريخ لإعادة صياغة «شعر الحنين» على شكل عناوين اقتصادية لما بعد الحرب كتأسيس ضروري لدفع قواربنا في تنمية متسارعة على شواطئ البحار الخمسة ودروب «الحزام والطريق».. واقعياً، فالاعتماد على قدراتنا الذاتية -بأكثر مما يجب- في هذا السياق، له أن يضر بمصالحنا تبعاً لما يفوّته زمن الإنجاز بين طياته من عوائد ممكنة، ناهيك عن خطر ترحيل الاستثمارات إلى بيئات أخرى هي على أهبة الاستعداد لاستغلال ثغراتنا التشريعية لتجديد الغبن التاريخي الذي ألحقه الغرب باقتصادات شرق المتوسط، عقاباً لنا، وانتقاماً من البزوغ الصيني الذي تمذهب الغرب على مقولة «علي وعلى أعدائي»، في التعاطي معه مؤخراً.
ما سبق ليس «ردّا شعرياً» يتداول مستقبلنا الاقتصادي، فقوة البناء التشريعي لإعادة الإعمار، قد يكون فرصتنا الوحيدة هذا القرن لتحقيق نمو قياسي تعويضاً عن التحييد التاريخي وما دمرته الحرب بعيداً عن الرؤى المتمرحلة، لمصلحة قفزات حقيقية ممكنة تدعم الأسواق والإنتاج وفق سلاسل متشابكة تخفّف المنعكسات التقنية المديدة للحرب وتتجاوز عقبات التشغيل، وتلطّف كلفة النمو السلبي الذي أصابنا.. وهذا يتطلب قوانين جريئة تتجاوز الاعتبارات النفسية وتابوهات الشعارات الضيقة، فإن كنّا حقاً نبتغي التعافي والانصهار في الشرق، فقد حان الوقت لتقديم ما يجب: لا أكثر مما فعله اقتصاد شيوعي كالصين، ولا أقل من احتياجاتنا إلى تنمية سريعة.
الخوف من الارتدادات الاجتماعية هاهنا، قد لا يتمتع بمشروعية كافية بعدما سحقت الحرب خطوط معيشتنا الحمراء، فاليوم، لامست أقدامنا القاع، ولا طريق لها سوى المضي عالياً.
ثمة مفترقات أخرى تتلاقى عند البعد التنموي لإعادة الإعمار بعدما تتحول دفقاته سلاحاً في وجه الهيمنة الغربية على بعض جيوبنا الجغرافية، فتبعاً للوقائع التي كرستها انتصاراتنا وحلفائنا، لم يعد للغرب من أفق تشجعه على الاستمرار في دعم عملائه ثواراً وتكفيريين على المدى الطويل.. الضغط التنموي هو أحد الأهداف المحتملة لتمسكه بذلك، وما أن تنطلق تنميتنا بخطا شجاعة، حتى ينزلق ذاك الدعم إلى دوامة أكثر تعقيداً وأقل مردودية.
سورية خلقت معبراً تجارياً ومحطة لوجستية، على هذا المنوال يجب ببيئتنا التشريعية صوغ فلسفتها مع «أي نظام اقتصادي نريد»، وبما ينسجم ويلبي مطامح «العولمة الشرقية الرحيمة»، وما لم يكن ذلك ممكناً، فعلينا الذهاب –أقلّه- لما يشبه تطلعات مصر إلى سيناء كإقليم تنموي، أو ما تسعى أميركا لابتداعه في مدينة «المفرق» قرب الحدود السورية الأردنية، أو لربما ما تحاول بريطانيا تطبيقه في ميناء طرابلس اللبناني. هذا التوجه، كأضعف الإيمان، سيتطلب انتخاب منطقة سورية بقوانين خاصة مدروسة تجسد الكنه العالمي لجغرافيتها بجعلها قبلة تجارية حقيقية كما كانت تاريخياً.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن