شرق أوسط جديد.. روسي
| عبد المنعم علي عيسى
ما انفكت الولايات المتحدة بمنظريها وساستها تبشر بقيام شرق أوسط جديد يقوم على أنقاض نظيره القديم الذي لم يجلب للمنطقة إلا الدمار وإراقة الدماء كما ترى وتسوق، فالشرق الأوسط الراهن لا يعجب الأميركيين بالتأكيد لأنه يقوم أساساً على تجذر الصراع العربي الإسرائيلي وعلى اعتباره القضية المركزية التي تتمحور حولها كل السياسات والأحداث، الأمر الذي أحال المنطقة، أيضاً بحسب الرؤية السابقة، إلى بؤرة للعنف والاضطراب، وفي هذا السياق لا يمكن اعتبار الإعلان الذي أطلقته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس بعد ساعات من بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان صبيحة الثاني عشر من تموز 2006 عندما قالت: «إن ما يجري الآن هو مخاض مؤلم لكن لا بد منه لولادة الشرق الأوسط الجديد» معتبرة أنه لا يمثل بداية لمسار وإنما نهاية له، أقله في الأطر التي كانت تعتمدها واشنطن للوصول إلى تلك الغاية، وعندما جاء يوم الرابع عشر من آب، كانت واشنطن قد أيقنت أن الأداة المستخدمة تعاني حالة كسل وظيفية تجعلها عاجزة عن القيام بالدور الموكل إليها، ولذا فقد كان القرار بنزول واشنطن بكل ثقلها لفرض تلك الولادة.
يعني الشرق الأوسط الجديد من وجهة النظر الأميركية، إزالة الخنادق التي رسمتها سنون الصراع السبعون، ثم انصهار مكونات المنطقة بكل تنوعها العرقي والديني والحضاري في نسيج واحد، الأمر الذي يفضي إلى إنتاج وعي آخر جديد وثقافة أخرى جديدة، وربما تكاثفت الجهود الأميركية بدءاً من مطلع الألفية الثالثة جراء عوامل عديدة لكن من أهمها غياب الجيل الذي شهد مناخات ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي وشهد المجازر والحروب وموجات النزوح التي رافقت تلك العملية وخصوصاً أن هذا الأخير قد فشل، كما يبدو، في نقل «الأمانة» بأدق تفاصيلها وحيثياتها إلى أجياله اللاحقة، ومن الطبيعي في هذا الشرق المأمول أميركياً، أن تتبوأ تل أبيب فيه مركز الزعامة انطلاقاً من أنها تملك القوة العسكرية الأمضى، كما تملك تفوقاً تكنولوجياً نوعياً يجعلها تسبق محيطها العربي عشرات السنين.
وعندما هبت رياح «الربيع العربي» على المنطقة، وجدت واشنطن فيها مطية مثلى للعبور إلى شرقها الأوسط الجديد، وفي أتون قيامها بهذا الفعل الأخير كان القرار بالتحالف مع الإسلام السياسي ممثلاً بـ«الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» ذي العقيدة الإخوانية الذي تديره الدوحة بدعم تركي، وخلال عام من التحالف الأميركي الإخواني، صعد نجم هؤلاء بشكل صاروخي على امتداد المنطقة، ليتمكن فرعا تونس والقاهرة من الوصول إلى سدة السلطة، على حين بقي فرعا دمشق وطرابلس الغرب يعاركان لأجل الوصول إليها، وعندما حدثت واقعة اغتيال السفير الأميركي في بنغازي في الذكرى الحادية عشرة لأحداث أيلول في نيويورك، شكل ذلك إعلاناً بفك عرا ذلك التحالف، وهو ما تبدت منعكساته سريعاً ليفقد الإخوان السلطة في تونس والقاهرة، على حين تقلصت السطوة الإخوانية على المعارضة السورية، وإن لم يدفع ذلك نحو تغييرات جوهرية في النهج الذي تتبعه هذي الأخيرة.
كانت واشنطن قد أيقنت بوجود عجز وظيفي لدى الحليف الإخواني، ما يحول بينه وبين إنجاز المهام الموكلة إليه، فالشرق الأوسط الأميركي الجديد يفترض فيه أن تغيب نزعات العنف وتسود نزعات التسامح والتواد، مما يتناقض جوهرياً مع البنى الإيديولوجية لذاك الحليف، ناهيك عن لحظ ظاهرة أخرى كانت ذات دلالات عديدة، ففي خلال الصعود الإخواني عملت الذات الجماعية العربية على لفظ ذاك الدور الذي يمارسه هؤلاء والانفضاض عنه اجتماعياً وثقافياً، فتلك الذات لم تزل تختزن في ذاكرتها خيار الإسلام الحربي الذي انتهجه التنظيم والذي ألحق بالدين الحنيف الكثير من الأذى، ما أدى إلى حالة نفور غربي منه ومن أتباعه، كما لا تزال تلك الذاكرة تختزن أيضاً سيناريوهات القتل وإراقة الدماء التي أحدثت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، شرخاً في النسيج المجتمعي واحتاج الأمر إلى عقود كي يدخل طور الترميم والتعافي.
كان التعاون الأميركي وكذا الإقليمي قد جعل من تيارات الإسلام السياسي مفرخة تستولد عشرات التنظيمات والفصائل حسب الطلب، وإذا ما كانت واشنطن قد نجحت انطلاقاً من سجن «بوكا» العراقي في إدخال تغييرات جوهرية على النهج الذي كانت تتبناه القاعدة والذي تتخذ منه ديدنها في الفكر والممارسة، فهذي الأخيرة كانت تقول بوجوب محاربة «الكفار» في الخارج أي في الغرب، ليصبح الأمر عند داعش وجوب محاربة «الكفار» في الداخل، إلا أن فك تحالفها الآنف الذكر، كان هو الآخر قد دفع نحو تغييرات جوهرية أيضاً ليعود النهج إلى سابق عهده، وفي السياق كان القرار بوجوب معاقبة الغرب وهو ما كانت له تداعياته المؤلمة لهذا الأخير، لتعمل واشنطن من بعدها على تأسيس تحالفها من أجل محاربة الإرهاب وهو التحالف الذي هدف إلى كبح جماح الحليف الذي تمرد وإعادته إلى جادة الصواب.
بدءاً من عام 2016 ووصولاً إلى اليوم، استطاعت موسكو أن تحقق العديد من المكاسب التي أدت إلى تزايد نفوذها في المنطقة، كانت النجاحات تطول ميادين المعارك وكذا ميادين السياسة، حتى إذا ما تراكمت هذي الأخيرة، وجدت فيها فرصة مناسبة لتطوير حالة النجاح، ومن ثم أخذت السلوكيات الروسية تأخذ طابع العمل على التأسيس لجنين شرق أوسط جديد تكون هي محوره، مستغلة للحظة تاريخية مهمة تمثلت بغياب القدرة الأميركية على المواجهة أو غياب أدواتها اللازمة للنجاح فيها، على حين كانت اللحظة الإقليمية أكثر من مناسبة، فأنقرة تغوص في بحر من الشكوك تجاه الحليف الأميركي التقليدي حتى ارتسمت عشرات إشارات الاستفهام لديها حول النيات الأميركية الحقيقية تجاهها بعدما فضلت واشنطن الأكراد عليها، أما إيران فهي باحثة عن حليف دولي يمكن لها أن تستند إليه في مواجهة هجوم غربي برأس حربة خليجي يتهدد نظامها إن لم يكن وجودها أيضاً، وفي مصر تبدو المعطيات المقلقة أكثر بروزاً وهي تعيش حالة عتب على حليف أميركي وعد ولم يف بوعوده على الرغم من مرور ما يقرب من عقد على تلك الوعود التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من على منبر جامعة القاهرة صيف عام 2009.
نجح الرئيس الروسي فيما أخفق الأميركيون به، فعندما جاء هؤلاء لإنجاز مشروعهم في المنطقة انطلاقاً من العراق ربيع عام 2003 كانوا سماسرة لشركات النفط العملاقة ولمجمع الصناعات الحربية، على حين إن الرئيس فلاديمير بوتين جاء مدججاً بحقائق الجغرافيا والديموغرافيا وكذا حقائق التاريخ وهو ما عبر عنه وزير خارجيته منذ بدء الصراع عندما قال لوفد المعارضة السورية مطلع عام 2012: «نحن ندافع عن موسكو في دمشق»، وكذا مدججاً بنظرة ثاقبة وهي تدرك جيداً ماذا تريد، أما المصالح الاقتصادية فهي تأتي فقط في سياق المعطيات السابقة وهي لا تشكل بأي حال من الأحوال الدافع الأهم للأداء الروسي.
الراجح هو أن المنطقة قد دخلت عصر شرق أوسط روسياً، وكانت زيارة قاعدة حميميم في الحادي عشر من الشهر الجاري إيذاناً به، على حين كانت «أحصنة طروادة» الروسية تعمل منذ حين وقد استطاعت إحداث اختراقات نوعية عندما طرقت الأبواب التركية بصواريخ «إس 400»، وكذا فعلت هذي الأخيرة مع الأبواب الإيرانية، وفي مصر اكتملت أضلاع ثالوث القوة الإقليمي بتوقيع بوتين إبان زيارته الأخيرة للقاهرة مشروع بناء مفاعل «الضبعة» النووي، لكن على الرغم من أهمية أضلع المثلث الثلاثة سابقة الذكر، إلا أن زاويته القائمة، كما تراها موسكو، هي في دمشق.