ثقافة وفن

البسطاء يصنعون الهطل … «مطر أيلول» في النادي السينمائي لأحفاد عشتار

| نهلة كامل

أتاحت لنا مؤسسة «أحفاد عشتار» مشاهدة فيلم «مطر أيلول» للمخرج المبدع عبد اللطيف عبد الحميد، محققة بذلك هدفي عرض الفيلم لأول مرة، وافتتاح طقس النادي السينمائي لها في صالة سينما الكندي.

مرآة ما قبل الحرب

وتجدر الإشارة أولاً إلى أن اختيار المؤسسة، التي ترأسها السيدة أيسر ميداني، لفيلم «مطر أيلول» الذي أخرجه عبد اللطيف عبد الحميد، لجهة خاصة، عام 2010 أي قبل أحداث الحرب السورية مباشرة، كان فكرة لافتة، وأن رعاية المؤسسة العامة للسينما للعرض كان بالمقابل بادرة تفهم تقدر لاحتضانها الفن السوري المبدع، وطقس النادي السينمائي الذي يعود بعد عقود.

يقتحم الفيلم عالمنا الحاضر بأسلوبه المفتوح على تساؤلات مصيرية راهنة، متحركة داخل بانوراما شعبية، كانت مرآة صافية نرى فيها أنفسها قبيل الحرب، فنردد مع أيمن زيدان ما قاله بعد عرض الفيلم: لم نكن نعرف كمية الحزن المخبأ خلف الأبواب، وما علق به عبد اللطيف عبد الحميد: إن الفيلم استقراء لما جرى فيما بعد في بلدنا، لكننا نستطيع أن نقرأ أيضاً في فيلم «مطر أيلول» ذلك السباق بين الألم والأمل الذي تعيشه الحياة الشعبية السورية، وأنها بالنهاية ستضع المطر إذا لم يهطل في أيلول، فهي وحدها تمثل البقاء في السلم والحرب، لهذا يصلح الفيلم للآن والماضي والمستقبل لأنه اختار التعبير عن الطبقة الشعبية الواسعة التي ستملأ الأرض حشيشاً أخضر بعد المطر وشعباً يواجه قسوة الحرب.

الحلقة المفقودة

يتتبع فيلم «مطر أيلول» الحياة في أحد الأحياء الشعبية المكتظة في دمشق، حيث يحصل على كنز ثمين من التنوع والكثافة الإنسانية والغنى المشهدي اليومي الذي يتفاعل لتشكيل مصير المواطن والوطن.

ويقدم الفيلم حياة أسرة كريم الأرمل، يقوم بدوره الفنان الكبير أيمن زيدان، التي تتكون من ستة شبان، ربما سيكونون في الحرب فيما بعد مقاتلين وشهداء، لكنهم الآن كأغلبية الأسر الشعبية، يعملون في مهن مختلفة، أربعة شبان يشكلون فرقة موسيقية تعزف في المقاهي الشعبية، إضافة إلى مازن بائع البطيخ، ووليد الذي يغسل السيارات. وتعيش هذه الأسرة، بالمفهوم الشعبي، ما يكتبه لها القدر الذي يكتشفه أبو الأسرة كريم عندما واجه المسؤول الصغير الفاسد طارق، «قاسم» الذي يقوم بدوره الممثل القدير قاسم ملحو، وقام بصفعه، ومنذ ذلك أصبح طارق هو القدر الذي يلاحق هذه الأسرة، ذلك أنه موجود في كل مكان، ويصبح هاجس كريم، بعد ما عرف خطر فعلته محاولة الاعتذار من طارق الذي يتجاهله ويزدريه كأنه لا يراه ولا ينزل إلى مستواه، لكنه بات يمثل تلك القطيعة التي تعيشها أسرة كريم مع القدر بوجه فساد.

فيلم «مطر أيلول» يقدم سيرة مواجهة أسرة كريم لهذا القدر كل على حدة وبشكل مبارزة يومية، غير منتهية، استعان عبد اللطيف عبد الحميد بكل أدواته السينمائية كاملة لإعطائها صدقية فنية وإنسانية وبحيث أصبحت اللغة السينمائية هي بطلة الفيلم.

ولا يمكن هنا استعراض عشرات الشخصيات السينمائية التي أبدعها عبد اللطيف عبد الحميد في أفلامه، لكننا نستطيع القول إن فيلم «مطر أيلول» كان أحد أهم الأعمال التي صوّرت الشخصيات العامة والشعبية على وجه الخصوص، هنا يقدم شخصيات يحبها ويتعاطف مع مصيرها، ويدخل أعماقها إلى درجة الشفافية، فأسرة كريم البسيطة تجسد الحياة بطريقتها الشعبية التي تحركها الآمال الصغيرة، وكسب العيش ببذل الجهد اليومي، هي تعيش ربما عند خط الفقر وتحته أحياناً، لكنها تتخطى الحدود في تطلعاتها الإنسانية المشغولة بالدأب والأمل والحب، وبحيث تجعل المستطاع عالماً واسعاً من التوق والرموز الجميلة أو الإنكسارات العميقة.

ويشكل الحب، كما هو في سينما عبد اللطيف عبد الحميد، الخط الرئيسي لفيلم «مطر أيلول» الحدث والمواجهة مع القدر والأمل، وكريم الذي يحب الشغالة فدوى، تجسدها الفنانة القديرة والجميلة سمر سامي، ويعيش معها علاقة تتعثر في البداية لأنه يخشى نظرة المجتمع لارتباطه بإنسانة.. خادمة، لكن الفيلم يكشف زوايا الفن في شخصية فدوى وبساطتها في طلب الأمل، وتصور المواعدات الغرامية لكريم وفدوى في غوطة دمشق هذا الجمال الخارجي، ونحن نفتقد الآن الغوطة، والداخلي النفسي حيث تتمنى فدوى فقط، أن تتزوج من كريم بينما يتساقط المطر في شهر أيلول، لكن الحب لدى مازن ووليد وهو يواجه التفاوت الطبقي والتقاليد الاجتماعية التي يعيشها شبان الطبقة الفقيرة ينتهي بمأساة مؤلمة، وحين تموت حبيبة وليد بسبب حادث سيارة كان للقدر دور فيها، ينتحر الشاب بعد أن يحفر قبره خارج دمشق، أما مازن الذي يحرمه القدر الاجتماعي من حبيبته ويقف أمام نافذتها المغلقة بالحجارة فإنه يصاب بحالة من اليأس تجعله يشيب في لحظات.

فيلم «مطر أيلول» لا يغلق باب الأمل بل يتركه مفتوحاً، ذلك أن الإيقاع العفوي الداخلي للحياة الشعبية، ومسراتها الصغيرة، وحركتها التي لا تهدأ في موزاييك من الرموز المتغيرة والجميلة والدافقة تغسل أحزانها اليومية وتجدد جهدها، وترفعها من قاع الألم الحزين إلى حالة النشوة، وتجعل أسرة كريم البسيطة تختزل إصرار وطن على الحياة رغم قسوة القدر الذي يلاحقها في البيئة والسلوك ومصدر الرزق، حيث أبدع عبد اللطيف عبد الحميد في رسم طارق المسؤول الفاسد الموجود في الشوارع والحدائق وخلف الأبواب، كقدر ورمز وشخصية، لكن الحياة الشعبية كنهر جارف، لن تتوقف عند حصاره، بل تتقدم لتبقى الكفة الراجحة في مصير الوطن، بأشكاله، وأحواله في السلم والحرب.

فيلم «مطر أيلول» يقدم حلول الطبقة الشعبية للاستمرار والبقاء، وإذا انكسرت بعض الحلقات الضعيفة بيد القدر، مثل مازن ووليد، إلا أن موهبة العازفين الأربعة في عائلة كريم تستمر في حقلها الإبداعي، أما حب كريم وفدوى الذي يمثل عفوية البقاء الشعبي فإنه ينجح ويحدث الزواج في الغوطة، ولأن السماء لم تكن تمطر فإن أولاد كريم وأصدقاءه يصنعون الهطل فوق سيارة العريسين بوساطة أنبوب ماء من أعلى الشجر، وتحصل فدوى على أملها بسقوط مطر أيلول أثناء الزفاف.

مفاتيح وأسرار

تنتابنا تساؤلات عميقة ومشاعر دافقة ونحن نتابع فيلم «مطر أيلول»، حول الوعي أو الغفلة التي كنا نعيشها، عن المخاوف التي تحققت والأحزان التي استمرت والآمال التي لا نزال نتمسك بها، عن المصير الذي ترسمه الحياة الشعبية، والأقدار التي جعلها عرضة للتشتت والدمار، لذلك فإن «مطر أيلول» أحد أهم الأعمال السينمائية للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، الذي قرأنا أبعاده في أعمال قدمها فيما بعد في سنوات الحرب، مثل: «أنا وابنتي وأبي وأمي» و«طريق النحل»، لأنه سيبقى الحلقة المفقودة في سلسلة إبداعية لا تكتمل رؤيتها إلا بتقديم حياة الطبقة الشعبية في مرحلة ما قبل الحرب التي يقدمها الفيلم ويجعل حياتها سر البقاء، وبحثها الحتمي الدائم عن الأمل، المعنى الأعمق للحياة، وصنعه إذا لم يكن قد تشكل بعد.

ويحقق «مطر أيلول» نجاحاً متقدماً في عالم عبد اللطيف عبد الحميد الإبداعي، لكن لهذا مفاتيحه وأسراره، وأحد أهم هذه المفاتيح هو تعمق عبد اللطيف المعرفي بتكوين وسلوك وتطلعات الطبقة الشعبية وحلولها البسيطة والحتمية والصدامية لمواجهة الحياة، والثاني هو أن عين المخرج عبد اللطيف عبد الحميد كانت دائماً داخل البيئة والمشهد الشعبي السوري، قادرة على التعبير بلغة السينما عن تفاصيل الحياة وداخلية شخصياتها المتعددة تعدد الحياة.

لغة عبد اللطيف عبد الحميد في «مطر أيلول» هي بالنهاية سر المشهد المتفوق، الذي لا يقع تحت سيطرة الحوار، بل يصوره ويجعل من الواقعية والرمز والشفافية ما يأسر عين المشاهد ومن الغنى والازدحام والتنوع عالم سينمائي عفوي خارج الإرادة يسابقه القدر، كما يلهث وراءه الفن السينمائي والمشاهد فلا يصل منتهاه إلا أن يجعل الشخصي قدراً عاماً ووطنياً بآن معاً.
يعرض «مطر أيلول» بعد سنوات من إنتاجه لأول مرة ليؤكد أن الأعمال السينمائية تكون موءودة ما لم تشاهد في وطنها وبين جمهورها، تلك هي الولادة الحقيقية والجائزة، وهذا هو التقدير المنتظر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن